قد أوصلت إليك الجزأين الأوّل والثاني على يد غلامك فائق، وهذا الجزء- وهو الثالث- قد والله نفثت فيه كلّ ما كان في نفسي من جدّ وهزل، وغثّ وسمين، وشاحب ونضير، وفكاهة وطيب، وأدب واحتجاج، واعتذار واعتلال واستدلال، وأشياء من طريف الممالحة على ما رسم لي، وطلب منّي، ولأنّه آخر الكتاب ختمته برسالة وصلتها بكلام في خاصّ أمري ستقف عليه، وتستأنف نظرا في حالي، يكون- إن شاء الله- كظنّي بك، ورجائي فيك، وفيه بعض العربدة لم أخرج منه إلى كفران لنعمة، ولا جحد لإحسان، ولا ستر ليد، ولا إنكار لمعروف، ولا شكّ في عناية، وإنما تكلمت على مذهب المدلّ المقلّ الذي يبعثه إقلاله على تجاوز قدره بالدّالة، ويريع به إدلاله عن حسن أدبه بفرط الثّقة، وربّ واثق خجل، وبالله المعاذ من ذلك، وفي الحالين صاحب هذا المذهب لا يخلو من ولاء صحيح المعتقب، وعقيدة كسبيكة الذّهب، وأنت بكرم طباعك، وسعة باعك، تجبر نقصي، وتأسو ما غثّ من جراحي، وأمات اهتمامي، ومن كان إحسانك إليه مشكورا، وتعذيرك عنده مستورا، لخليق أن يكون على بالك خاطرا، وبلسانك مذكورا، والسلام.
وها أنا آخذ في نشر ما جرى على وجهه إلّا ما اقتضى من الزّيادة في الإبانة والتّقريب، والشّرح والتّكشيف.
وقد جمعت لك جميع ما شاهدته في هذه المدّة الطويلة، ليكون حظّك من الكرم والمجد موفورا، ونصيبي من اهتمامك بأمري وجذبك بباعي وإنقاذك إيّاي من أسري تامّا، فظنّي واعد بأنّك تبلغ بي ما آمله فيك وتتجاوزه وتتطاول إلى ما فوقه، لأزداد عجبا ممّا خصّك الله به، وأفردك فيه، وأتحدّث على مرّ الأيّام بغريبه، وأحثّ كلّ من أراه بعدك على سلوك طريقك في الخير، ولزوم منهاجك في الجميل، والدّينونة بمذهبك المستقيم، وأكايد أصحابنا ببغداد، وأقول لهم: هل كان في حسبانكم أن يطلع عليكم من المشرق من يزيد ظرفه على ظرفكم، «ويبعد بعلمه على علمكم» ، ويبرّز هذا التّبريز في كلّ شيء تفخرون به على غيركم، فأناظرهم فيك وبسببك، لا مناظرة الحنبليّين مع الطّبريّين، وأتعصّب لك، لا تعصّب المفضّليّين والبرغوثيّين، وأجادل من أجلك، لا جدل الزّيديّين مع الإماميّين، وأدّعي في فضائلك الظّاهرة والباطنة دعوى أقوى من دعوى الشّيعيّين، وأضرب في ذلك كلّ مثل، وأستعين بكلّ سجع، وأروي كلّ خبر، وأنشد كلّ بيت، وأعبّر كلّ رؤيا، وأقيم كلّ برهان، وأستشهد كلّ حاضر وغائب، وأتأوّل كلّ مشكل وغامض، وأضيف إليك الآية بعد الآية، والمعجزة بعد المعجزة، وأنصلت لكلّ ضريبة، وأدعي كلّ غريبة، هذا ولا أخلط كلامي بالهزل، ولا أشين دعواي بالمحال، ولا أبعد الشاهد، ولا أتعلّق