ظفر حسن، وامتياز في الغرارة جميل، وما تفاضلت درجات العلماء إلّا بتصفّح الأخير قول الأوّل واستيلائه على ما فاته.
وسأل- أباد الله عداه، وحقّق مناه- وقال: هل يسلّم على أهل الذّمّة؟ وهل يبدأون؟
فكان أبو البختريّ الداوديّ حاضرا- فحكى أنّ عمر بن عبد العزيز سئل عن هذا بعينه، فقال: يردّ عليهم السلام، ولا بأس بأن يبدءوا، لقول الله عزّ وجلّ:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
[الزخرف: ٨٩] .
وحكى في معرض حديث أبي بكر قال: كتب مجنون إلى مجنون: «بسم الله الرّحمن الرّحيم، حفظك الله، وأبقاك الله، كتبت إليك ودجلة تطغى، وسفن الموصل ها هي، وما يزداد الصّبيان، إلا شرّا، ولا الحجارة إلا كثرة، فإيّاك والمرق فإنّه شرّ طعام في الدّنيا، ولا تبت إلّا وعند رأسك حجر أو حجران، فإنّ الأخبر يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
[الأنفال: ٦٠] . وكتبت إليك لثلاث عشرة وأربعين ليلة خلت من عاشوراء سنة الكمأة» .
قال: وكتب مجنون آخر: «أبقاك الله من النّار وسوء الحساب، وتفديك نفسي موفّقا إن شاء الله» .
قال: وكتب مجنون آخر إلى مجنون مثله: وهب الله لي جميع المكاره فيك، كتابي إليك من الكوفة حقّا حقّا حقّا، أقلامي تخطّ، والموت عندنا كثير، إلا أنّه سليم والحمد لله، أحببت ليعرفه إعلامكم ذلك إن شاء الله.
فضحك- أضحك الله سنّه- حتى استلقى، وقال: ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطراف إذا سمعنا بحديث المجانين؟
فقال ابن زرعة: لأنّ المجنون مشارك للعاقل في الجنس، فإذا كان من العاقل ما يحسب أن يكون من المجنون كره ذلك له، وإذا كان من المجنون ما يعهد من العاقل تعجّب منه، والعقل بين أصحابه ذو عرض واسع، وبقدر ذلك يتفاضلون التّفاضل الذي لا سبيل إلى حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عرض واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التّفاوت الذي لا مطمع في تحصيله، وكما أنّه يبدر من العاقل بعض ما لا يتوقّع إلا من المجنون كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يتوقّع إلا من العاقل، ولا يعتدّ بذلك ولا بهذا، أعني أنّ العاقل بذلك المقدار لا يرى مجنونا، والمجنون بذلك المقدار لا يسمّى عاقلا، وإنما اجتمعا في النادر القليل، لاجتماعهما في الجنس الذي يعمّهما، والنوع الذي يفصلهما، وفي الجملة الإنسان بما هو به حيوان سبع وحمار، وبما هو به نفسيّ إنسان، وبما هو به عاقل نبيّ وملك، وهذه الأعراض- وإن تداخلت