لانتظامها في طينة واحدة- فإنّها تتميّز بقوّة العقل في الصّورة المخلوطة إما مفارقة، وإما مواصلة. ومرّ له في هذا الموضع كلام بليغ تامّ مكشوف «١» .
ثمّ ترامى الحديث إلى أمر المطعمين والطاعمين، والذين يهشّون عند المائدة، والذين يعبسون ويجمون ويطرقون، والذين يصخبون ويلغطون، ويضجرون ويغتاظون.
فقال: أحبّ أن أسمع في هذا أكثر ما فيه، ويمرّ بي أعجبه، فإنّ في معرفة هذا الباب تهذيبا وإيقاظا كثيرا.
فكان من الجواب: إنّ الناس قديما وحديثا قد خاضوا في هذا الفنّ خوضا بعيدا، وما وقفوا منه عند حدّ، لأن الحديث عن الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة، والطبائع المتنائية لا يكاد ينتهي إلى غاية يكون فيها شفاء للمستمع المستفيد ولا للرواية المفيد.
قال: قبل كل شيء أعلمونا يا أصحابنا: الحثّ على الأكل أحسن، أم الإمساك حتى يكون من الأكل ما يكون؟
فكان من الجواب: أن هذه المسألة بعينها جرت بالأمس بالرّيّ عند ابن عبّاد فتنوهب الكلام فيها، وأفضى إلى الأولى الحثّ والتأنيس والبسط والطّلاقة ولين اللّفظ وقلّة التّحديق وإسجاء الطّرف مع اللّطف والدّماثة، من غير دلالة على تكلف في ذلك فاضح ولا إمساك عنه قادح.
وحكى ابن عبّاد في هذا الموضع أنّ بعض السّلف قال: الطعام أهون من أن يحثّ على تناوله.
وقال الحسن بن عليّ: الطعام أجلّ من أن لا يحثّ على تناوله. ومذهب الحسن أحسن.
قال: ولقد حضرت موائد ناس لا أظنّ بهم البخل فلم يحثّوني ولم يبسطوني فقبضني ذلك، وكأنّ انقباضي كان بمعونتهم، وإن لم يكن بإرادتهم.
قال الوزير: هذه فائدة من هذا الرجل الّذي يتهادى قوله، وتتراوى أخباره.
ثم حكيت له أن أسماء بن حارجة قال: ما صنعت طعاما قطّ فدعوت عليه نفرا إلّا كانوا أمّن عليّ منّي عليهم. فقال: زدنا من هذا الضرب ما كان، قلت: لو أذن لي في جمعه كان أولى، قال: لك ذلك فما يضرّنا أن تطرب آذاننا بما تهوى نفوسنا.
فكان من الجواب أنّ الجاحظ قد أتى على جمهرة هذا الباب إلّا ما شذّ عنه ممّا لم يقع إليه، فإن العالم- وإن كان بارعا- ليس يجوز أن يظن به أنه قد أحاط بكلّ