للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكر الأصمعيّ أن أعرابيّا خرج في سفر ومعه جماعة، فأرمل «١» بعضهم من الزاد، وحضر وقت الغداء وجعل بعضهم ينتظر بعضا بالغداء، فلمّا أبطأ ذلك عليهم عمد بعضهم إلى زاده فألقاه بين يدي القوم، فأقبلوا يأكلون، وجلس صاحب الزاد بعيدا للتّوفير عليهم، فصاح به أعرابي: يا سؤدداه! وهل شرف أفضل من إطعام الطعام والإيثار به في وقت الحاجة إليه؟ لقد آثرت في مخمصة ويوم مسغبة، وتفرّدت بمكرمة قعد عنها من أرى من نظرائك، فلا زالت نعم الله عليك غادية ورائحة.

وفي مثله يقول حاتم الطائيّ:

أكفّ يدي من أن تنال أكفّهم ... إذا ما مددناها وحاجاتنا معا

وإنّي لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزّاد أقرعا

قال: المخمصة: المجاعة. والخمص: الجوع.

قال شاعر يذمّ رجلا:

يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما

وقال المرقّش الأكبر:

إن يخصبوا يغنوا بخصبهم ... أو يجدبوا فجدوبهم ألم

وكتب بعضهم إلى أخ له: إن رأيت أن تروي ظمأ أخيك بقربك، وتبرّد غليله بطلعتك، وتؤنس وحشته بأنسك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزيّن مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكن، وتمّمت له السرور بك باقي يومك، مؤثرا له على شغلك، فعلت- إن شاء الله-.

وقال الشاعر:

وكأنّ هدر دمائهم في دورهم ... لغط القبيل على خوان زياد

قال بعض الخطباء: العجب من ذي جدة منعم عليه يطوي جاره جوعا وقرّا، وأفرخه شعث جرد من الرّيش، وهو مبطان محتش من حلوه وحامضه، مكتنّ في كنّه ودفئه، مزيّن له شهوة عن أداء الذي عليه لجاره وقريبه وذي حلّة بطر رفه، كيف يأمن سلبا مفاجئا؟ أما لو وجّه بعض فضله إلى ذي حاجة إليه كان مستديما لما أولي، مستزيدا ممّا أوتي.

قال الشاعر «٢» :

وإذا تأمّل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال محل أغبر

أوما إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحري

<<  <   >  >>