في فتل حبل، وآخر في حفر بئر، وآخر في نصب فخّ، وآخر في دسّ حيلة، وآخر في تقبيح حسن، وآخر في شحذ حديد، وآخر في تمزيق عرض، وآخر في اختلاق كذب، وآخر في صدع ملتئم، وآخر في حلّ عقد، وآخر في نفث سحر، وناري مع صاحبي رماد، وريحه عليّ عاصفة، ونسيمي بيني وبينه سموم، ونصيبي منه هموم وغموم، وإنّي أحدّثكم بشيء تعلمون به صدقي في شكواي، وتقفون منه على تفسّخي تحت بلواي، ولولا أنّي أطفئ بالحديث لهبا قد تضرّم صدري به نارا، واحتشى فؤادي منه أوارا، لما تحدّثت به، ولو استطعت طيّه لما نبست بحرف منه، ولكنّ كتماني للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر.
دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس، فقال لي: قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد، فقلت: أفعل، وفي تذكرتي أشياء لابدّ من ذكرها وعرضها.
فقال: هات، فقلت: يتقدّم «١» بكذا وكذا، ويفعل كذا وكذا. فقال: عندي جميع ذلك، أمض هذا كلّه، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحد اعتراض، فانقلبت عن المجلس إلى زاوية في الحجرة، وفيها تحدّرت دموعي، وعلا شهيقي، وتوالى نشيجي، حتّى كدت أفتضح فدنا منّي بعض خدمي من ثقاتي، فقال:
ما هذا؟ الناس وقوف ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتّشريف الميمون، وأنت في نوح وندم؟ فقلت: تنحّ عنّي ساعة حتّى أطفئ نار صدري، وإنما كان ذلك العارض لأنّي كنت عرضت على صاحبي تذكرة مشتملة على أشياء مختلفة، فأمضاها كلّها، ولم يناظرني في شيء منها، ولا زادني شيئا فيها، ولا ناظرني عليها، ولعليّ قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيّل إليّ بهذه الحال أنّ غيري يقف موقفي، فيقول فيّ قولا مزخرفا، وينسب إليّ أمرا مؤلّفا، فيمضي ذلك أيضا له كما أمضاه لي، فوجدتني بهذا الفكر الذي قد فتق لي هذا النوع من الأمر كراقم على صفحة ماء، أو كقابض في جوّ على قطعة من هواء، أو كمن ينفخ في غير فحم، أو يلعب في قيد، ولقد صدق الأوّل حيث قال:
وإنّ امرأ دنياه أكبر همّه ... لمستمسك منها بحبل غرور
غير أنّي أذكر لكم ما عنّ لي من هذا الأمر:
اعلموا أنّي ظننت أنّ ما نظّمه الماضي- رحمه الله- وأصلحه، وبناه وقوّمه، ونسجه ونوّقه لا يستحيل في ثلاثين سنة ولا خمسين سنة، وأنّ الحال تدوم على ذلك المنهاج، وتستمرّ على ذلك السّياج، ونكون قد أخذنا بطريق من السّعادة، وبلغنا