قال إسحاق: كنت يوما عند أحمد بن يوسف الكاتب، فدخل أحمد بن أبي خالد الكاتب ونحن في الغناء، فقال: والله ما أجد شيئا ممّا أنتم فيه. قال إسحاق: فهان عليّ وخفّ في عيني، فقلت له كالمستهزئ به: جعلت فداك، قصدت إلى أرقّ شيء خلقه الله وألينه على الأذن والقلب، وأظهره للسّرور والفرح، وأنفاه للهمّ والحزن، وما ليس للجوارح منه مؤونة غليظة، وإنما يقرع السّمع وهو منه على مسافة، فتطرب له النفس، فذممته!؟ ولكنه كان يقال: لا يجتمع في رجل شهوة كل لذّة، وبعد، فإنّ شهوة كلّ رجل على قدر تركيبه ومزاجه. قال: أجل، أمّا أنا فالطعام الرقيق أعجب إليّ من الغناء.
فقلت: إي والله ولحم البقر والجواميس والتيوس الجبليّة بالبازنجان المبزّر أيضا تقدّمه؟
فقال: الغناء مختلف فيه، وقد كرهه قوم. قلت: فالمختلف فيه أطلقه لنا حتى تجمعوا على تحريمه، أعلمت- جعلت فداك- أنّ الأوائل كانت تقول: من سمع الغناء على حقيقته مات. فقال: اللهم لا تسمعناه على الحقيقة إذا فنموت. فاستظرفته في هذه اللفظة، وقدّموا إليه الطعام فشغل عن ذمّ الغناء.
قال سعيد بن أبي عروة: نزل الحجّاج في طريق مكّة، فقال لحاجبه: انظر أعربيّا يتغدّى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر الحاجب إلى أعرابيّ بين شملين، فقال: أجب الأمير، فأتاه، فقال له الحجّاج: إذن فتغدّ معي. فقال: إنّه دعاني من هو أولى منك فأجبته. قال: ومن هو؟ قال: الله عزّ وجلّ دعاني إلى الصّوم فصمت، قال: أفي هذا اليوم الحارّ؟ قال: نعم، صمته ليوم هو أشدّ منه حرّا. قال: فأفطر وصم غدا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إليّ. قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إنّه طعام طيّب. قال: إنّك لم تطيّبه ولا الخبّاز، ولكنّ العافية طيّبته، ولم يفطر، وخرج من عنده.
قال أعرابي: هذا الطّعام مطيبة للنّفس، محسنة للجسم.
قال أبو حاتم: حدّثنا الأصمعيّ قال: قال أبو طفيلة الحرمازيّ: قال أعرابيّ: