للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحركة. وقال قائل: النفس تمام لجسم طبيعيّ ذي حياة. وقال قائل: النفس جوهر ليس بجسم محرّك للبدن. وعلى هذا، ولعلّ آخرين يقولون في تحديدها ونعتها أقوالا أخر، لأنّ الملحوظ بسيط، والمدروك بعيد، والناظرين كثيرون، والباحثين مختلفون، والكثرة فاتحة الاختلاف، والاختلاف جالب للحيرة، والحيرة خانقة للإنسان، والإنسان ضعيف الأسر، محدود الجملة، محصور التفصيل، مقصور السّعي، مملوك الأوّل والآخر، غشاؤه كثيف، وباعه قصير، وفائته أكثر من مدركه، ودعواه أحضر من برهانه، وخطؤه أكثر من صوابه، وسؤاله أظهر من جوابه، فعلى هذا كلّه الاعتراف بها- أعني بالنفس وبوجدانها- أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها.

قال: وإنما صعب هذا لأنّ الإنسان يريد أن يعرف النّفس وهو لا يعرف النّفس إلّا بالنّفس، وهو محجوب عن نفسه بنفسه، وإذا كان الأمر على هذا فالأمر أنّ كلّ من كانت نفسه أصفى، ونوره أشعّ، ونظره أعلى، وفكره أثقب، ولحظه أبعد، كان من الشكّ أنجى، وعن الشّبهة أنأى، وإلى اليقين أقرب، والإنسان ذو أشياء كثيرة، من جملتها نفسه، فلكثرة ما هو به كثير يعجز عن إدراك ما هو به واحد، أي إنسان، وكيف لا يكون هذا النّعت حقّا، وهذا المقول صدقا، وهو مركّب في مركّب، والنّفس مبسوطة، وإنما فيه جزء يسير ونصيب قليل من ذلك البسيط، فكيف يدرك بجزء منها كلّها وبقليل منها جميعها، هذا متعذّر إن لم يكن محالا، وبعيد إن لم يكن معدوما، ويكفي أن تعلم أن النفس قوة إلهية واسطة بين الطبيعة المصرّفة للأسطقسّات والعناصر المتهيّئة، وبين العقل المنير لها، الطالع عليها، الشائع فيها، المحيط بها، وكما أن الإنسان ذو طبيعة لآثارها الظاهرة في بدنه كذلك هو ذو نفس، لآثارها الظاهرة في آرائه وأبحاثه، ومطالبه ومآربه، وكذلك هو ذو عقل لتمييزه وتصفّحه، واختباره وفحصه واستنباطه، ويقينه وشكّه، وعلمه وظنّه، وفهمه ورويّته وبديهته وذكره، وذهنه وحفظه وفكره، وحكمته وثقته وطمأنينته، وكذلك هو ذو اعتراف بالأحد الّذي لا سبيل إلى جحده، والبراء من هويّته، وكيف يجد أثر الجحد، أو يحسّ بلمسة من الشكّ؟ وسنخه ينبو عن ذلك، وفطرته تأباه، ولهذا النّبوّ والإباء يفزع إليه، ويتوكّل عليه، ويطلب الفرج من عنده، ويلتمس الخير من لدنه، فانظر إلى هذه السّلسلة الوثيقة التي لا يفصمها شيء لا في زمان ولا في مكان، ولا في يقظة ولا في منام، فهذا هذا؟ وفيه مقنع.

وأمّا فعل النّفس، فقد وضح أنّه إثارة العلم من مظانّه، واستخلاصه من العقل بشهادته، مع إفاضات لها أخر، وإنالات منها جليلة عند الإنسان، بها ينال ما يكمل به، وبكماله يجد السعادة، وبسعادته ينجو من شقوته.

وأمّا قوله: ما الّذي استفادت في هذا المكان؟ فإنّها أفادت وما استفادت، إلّا أن

<<  <   >  >>