تجعل إفادتها للقابل منها استفادة لها، وفي هذا تجوّز ظاهر، ولا يقال للشمس إذا طلعت على بسيط الأرض والعالم: ما الّذي استفادت. ولكن يقال: ما الّذي أفادت:
فيعلم حينئذ بالعيان أنّها أفادت أشياء كثيرة، صورا مختلفة، ومنافع جمّة بالقصد الأوّل، وأمّا القصد الثاني فأضداد هذه، وهذا القصد مفروض باللفظ ليكون معينا على تبليغ الحكمة إلى أهلها.
وأمّا قوله: بأيّ شيء باينت النفس الرّوح؟ فهو ظاهر، وذلك أنّ الرّوح جسم يضعف ويقوى، ويصلح ويفسد، وهو واسطة بين البدن والنّفس، وبه تفيض النفس قواها على البدن، وقد يحسّ ويتحرّك، ويلذّ ويتألم، والنفس شيء بسيط على الرّتبة، بعيد عن الفساد، منزّه عن الاستحالة.
وأمّا المانع أن تكون النفس جسما فللبساطة التي وجدت للنفس ولم توجد للجسم، وبيان هذا أن كلّ نعت أطلق على الجسم نزّهت عنه النفس، وكلّ نعت أطلق على النفس نبا عنه الجسم، فذاك كان المانع من ذلك، وقد أتت مذاكرة في النفس منذ ليال بشرح مغن، وبيان تامّ، إلّا أن هذا المكان أحوج إلى الإلمام، ولم يأت على ما في النفس. وإذا بطل أن تكون النفس جسما فهي بألّا تكون عرضا أقمن وأخلق، لأنّه لا قوام للعرض بنفسه.
وأما قوله: وهل تبقى؟ فكيف لا تبقى وهي مبسوطة لا يدخل عليها ضدّ، ولا يدبّ إليها فساد، ولا يصل إلى شيء منها بلى، والإنسان إنما يبلى ويفسد ويخلق ويبطل ويموت ويفقد، لأنّه يفارق النّفس، والنفس تفارق ماذا حتّى تكون في حكم الإنسان بشكله؟ ولو كانت كذلك كانت لعمري تموت وتبلى، فأمّا والإنسان بها كان حيّا وجب ألا يكون حكمها حكم الإنسان.
وأمّا قوله: أو هما؟ فقد بان أنّ النفس متى لم تكن جسما، ولا عرضا على حدة أنها لا تكون أيضا بهما نفسا، لأنّ البينونة التي منعت في الأوّل هي الّتي تمنع في الثاني، وليست النفس والعرض كالخلّ والسّكّر حتى إذا جمع بينهما كان منهما شيء آخر، لأنّ الجسم والجسم إذا اختلطا كان منهما شيء ما، له قوام، وإنّ ذلك القوام مستلّ منهما، وليس كذلك البسيط وغير البسيط، فهذا هذا.
وأمّا قوله: وهل تفنى؟ فقد بان أنّها تبقى ولا تفنى، وليس يطرأ عليها ما يفنيها، لبساطتها وبعدها من التّركيب العجيب المعرّض للتحلّل.
وأما قوله: وهل تعلم ما كان فيه الإنسان هاهنا؟ فإنّ هذا بعيد من الحقّ لأنّها قد وصلت إلى معدن الكرامة وجنّة الخلد، فلا حاجة بها إلى علم العالم السّفليّ الّذي لا ثبات له ولا صورة، لغلبة الحيلولة عليه، وتذكّر الحيلولة حيلولة،