للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك دليل النّقص، واعتراض الألم، ولو أن إنسانا نقل من كرب حبس ضيّق إلى روض بستان ناضر بهيج مونق، ثم تذكّر ما كان فيه في حال ما هو عليه لكان ذلك مؤذيا لنفسه، وكاربا لقلبه، وقادحا في روحه، وآخذا من حبوره وغبطته، ومدخلا للتّنغيص عليه في نشوته.

وأمّا قوله: وما الإنسان؟ فالإنسان هو الشيء المنظوم بتدبير الطّبيعة للمادّة المخصوصة بالصّور البشريّة، المؤيّد بنور العقل من قبل الإله، وهذا وصف يأتي على القول الشائع عن الأوّلين إنّه حيّ ناطق مائت أي حيّ من قبل الحسّ والحركة، ناطق من قبل الفكر والتمييز، مائت من قبل السّيلان والاستحالة، فمن حيث هو حيّ شريك الحيوان الّذي هو جنسه، ومن حيث هو مائت هو شريك ما يتبدّل ويتحلّل، ومن حيث هو ناطق هو إنسان عاقل حصيف، ومن حيث يبلغ إلى مشاكهة الملك بقوّة الاختيار البشريّ، والنور الإلهي- أعني ينعت في حياته هذه التي وهبت له بدءا، بصحّة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول- هو ملك، فإن لم يكن ملكا فهو جامع لصفاته، ومالك لحيلته، ولمّا كان جنسه مشتملا على التفاوت الطّويل العريض، كان نوعه مشتملا على التفاوت الطويل العريض، ومن كان نوعه كذلك كانت آحاده كذلك، وكما أنّ الجنس يرتقي إلى نوع كامل، كذلك النوع يرتقي إلى شخص كامل.

وأمّا قوله: هل الحدّ هو الحقيقة، أو بينهما بون؟ فإنّ الحدّ راجع إلى واضعه ومتقصّيه بدلالة أنّه يضعه ويفصّله، ويخلّصه ويسوّيه ويصلحه. فأما الحقيقة فهي الشيء وبها هو ما هو، حدّه صاحبه أم لم يحدّه، رسمه قاصده أم لم يرسمه، فملحوظ الحقيقة عين الشيء وموضوع الحدّ ليس هو عين الشيء.

وأمّا قوله: وما الطبيعة؟ فهي أيضا قوة نفسيّة، فإن قلت عقلية لم تبعد، وإن قلت إلهية لم تبعد، وهي الّتي تسري في أثناء هذا العالم محرّكة ومسكّنة، ومجدّدة ومبلية، ومنشئة ومبيدة، ومحيية ومميتة، وتصاريفها ظاهرة للحسائس، وهي آخر الخلفاء في هذا العالم، وهي بالموادّ أعلق، والموادّ لها أعشق، وليس لها ترقى النّفس في الثّاني إلى عالم الرّوح، لأنّه لا كون هناك ولا فساد، فلو رقيت إلى هنالك لبقيت عاطلة، وليس كذلك النفس، فإنّ لها في عالمها البهجة والغبطة، والحبور والسّرور، وهذا هناك في مقابلة ما كان لها هاهنا من الفضائل التي لا يأتي عليها إحصاء، ولا يحصّلها استقصاء.

وأمّا قوله: وهلّا أغنى الرّوح عن النّفس؟ فهو يغني عنها، ولكن في جنس الحيوان الذي لم يكمل فيكون إنسانا. فأمّا في الإنسان فلا، لأنّ الإنسان بالنّفس هو إنسان لا بالرّوح، وإنما هو بالرّوح حيّ فحسب.

<<  <   >  >>