وأمّا قوله: وهلّا أغنت النفس عن الرّوح؟ فإنّ الرّوح كالآلة للنفس حتى ينفذ تدبيرها بواسطته في صاحب الرّوح، وليس ذلك لعجز النفس، ولكن لعجز ما ينفذ فيه التدبير، وإذا حقّق هذا الرّمز لم يكن هناك عجز لأنّه نظام موجود على هذه الصورة، وصورة قائمة على هذا النظام، فليس لأحد أن يعلّل ذلك بلم ولا بكيف إلّا من طريق الإقناع.
وأمّا قوله: هلّا كفت الطبيعة؟ فقد كفت في مواضعها التي لها الولاية عليها من قبل النّفس، كما كفت النفس في الأشياء التي لها عليها الولاية من قبل العقل، كما كفى العقل في الأمور التي له الولاية عليها من قبل الإله، وإن كان مجموع هذا راجعا إلى الإله، فإنّه في التفصيل محفوظ الحدود على أربابها، وهذا كالملك الّذي له في بلاده جماعة فيصدرون عن رأيه، وينتهون إلى أمره، ويتوخّون في كلّ ما يعقدونه ويحلّونه، وينقضونه ويبرمون، ما يرجع إلى وفاقه، وكلّ ذلك منه وله وبأمره، وقد كفاه أولئك القوم ذلك كلّه.
فإن قال قائل: فكيف مثّلت سياسة إلهية بسياسة بشريّة، وأين هذه من تلك؟
فالجواب: أنّ البشر المسكين لم يجدّ هذه السياسة من تلقاء نفسه، ولا بما هو به مهين ضعيف عاجز مسكين، بل بما فاض عليه من تلك القوى وتلك الصّور، فهو إذا أبرز شيئا أبرز على مثال تلك، لأنّه قد أعطي القالب، فقد سهل عليه أن يفرغ فيه، ووهب له الطابع، فهو يختم به، وهيّئ على ذلك فهو يجري عليه، وهذا سوق إلهيّ وإن كان الانسياق بشريّا، ونظم ربوبيّ وإن كان الانتظام إنسيّا، وفي الجملة، إحدى السّياستين، أعني البشري هي ظلّ للأخرى، أعني الإلهيّة، والسّفليّات منقادة منفعلة للعلويّات، والعلويّات مستوليات على السّفليّات، بحقّ العدل وما هو مقتضاها، ولأنّ هذه فواعل، أعني العلويّات، وتلك قوابل، أعني المنفعلات، ووجب ذلك لأن الصورة في الفاعل أغلب، والهيولى في القابل أغلب، والعالمان متواصلان، والسّياستان متماثلتان، والسّيرتان متعادلتان، والتّدبيران متقابلان، ولكنّ التدبير إذا نفذ في السّفليّ يسمّى بشريّا، وإذا نفذ في العلويّ يسمّى إلهيّا، وأن كانا في التّحقيق إلهيّين، وإنّما اختلفا بحسب الصّدور والورود، والفصول والوصول، والشّخوص، والبلوغ، والعادة جارية بأن يشبّه الإنسان شيئا من الأشياء بالشّمس والقمر، ولا يشبّه الشّمس والقمر بشيء آخر، لأنّ للأعلى النّعت الأوّل، وللأسفل النّعت الأرذل، فهذا كما ترى.
وأما قوله: وما العقل، وما أنحاؤه، وما صنيعه؟ فإن الجواب عن هذا لو وقع في خلد كثير، لكان محمولا على التقصير، وكذلك فيما تقدّم، ولكن هذا مكان قد اقترح فيه الإيجاز والتّقريب، وهذان لا يكونان إلّا بحذف الزوائد المفيدة، وإلّا بتفريق العلائق الموضّحة. وبعد، فالعقل أيضا قوّة إلهيّة أبسط من الطبيعة، كما أن الطبيعة