للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قوّة إلهيّة أبسط من الأسطقسّات، وكما أن الأسطقسّات أبسط من المركّبات، وعلى هذا حتّى تنتهي المركّبات إلى مركّب في الغاية، كما بلغت المبسوطات إلى مبسوط في النهاية، فالتقى الطّرفان على ما يقال له: كلّ، فلم يكن بعد ذلك مطلب لا في هذا الطّرف ولا في هذا الطّرف، والعقل هو خليفة الله، وهو القابل للفيض الخالص الّذي لا شوب فيه ولا قذى، وإن قيل: هو نور في الغاية، لم يكن ببعيد، وإن قيل بأنّ اسمه مغن عن نعته، لم يكن بمنكر، وإنما عجزنا عن تحديد هذه البسائط لأنا حاولنا عند علمها أن تكون في صورة المركّبات أو قريبة منها، وأن تصير لنا أصناما نتمثّلها ونوكّل بها، وهذا منّا تعجرف مردود علينا، وخطأ يلزمنا الاعتذار منه إلى كلّ من أحسّ به منّا، وينبغي أن نتوب إلى الله في كلّ وقت من وصفه بما لا يليق به، ومن طرح الوهم على شيء قد حجبه عن معارفنا، ورفعه عن عقولنا، وقصرنا على حدودها اللازمة لنا، وأشكالنا المشتملة علينا.

هذا حديث العقل إذا لحظ في ذروته.

فأما إذا فحص عن آثاره في حضيضه فإنّه تمييز وتحصيل وتصفّح وحكم وتصويب وتخطئة، وإجازة وإيجاب وإباحة، وإيّاك أيّها السامع أن يكون مفهومك من هذه الأسماء والأفعال والحروف أشياء متمايزة فتجعل شيئا واحدا أشياء، ومن كثّر الواحد فهو أشدّ خطأ ممّن وحدّ الكثير، لأنّ تكثير الواحد انحطاط إلى المركز، وتوحيد الكثير استعلاء إلى المحيط، بل يجب أن يكون محصولك منها شيئا واحدا لم تصل إليه إلّا بترادف هذه الكلمات، وتصاحب هذه الصّفات.

وأما أنحاؤه، فعلى قدر ما يقال: فلان عاقل وفلان أعقل من فلان، وفلان في عقله لوثة، وفلان ليس بعاقل، وأصحاب العقل أنصباؤهم منه مختلفة بالقلّة والكثرة، والصّفاء والكدر، والإنارة والظّلمة، واللّطافة والكثافة، والخفّة والحصافة، كما تجدهم مختلفين في الصّور والألوان والخلق بالطّول والقصر، والحسن والقبح، والاعتدال والانحراف، والرّدّ والقبول، إلّا أنّ هذا القبيل يدرك بالحسّ، ويشهد بالعيان، ويعاين بالحضور، وذلك القبيل محجوب عن هذا كلّه، فلم يجز أن تكون الإحاطة بتفاوت ما غاب عنّا في وزن الإحاطة بتفاوت ما حضر، فإنّهما ما تباينا ليأتلفا، بل ليختلفا، وهذا التفاوت معترف به إذا اعتبر من خارج، وذلك أنّك تجد أصحاب المال أيضا يتباينون في مقادير ما يملكون من المال، ولا يتّفقون على مقدار واحد منه عند جماعتهم، ولا يتّفقون على نوع واحد أيضا من أعيان المال، لأنّ هذا يملك الصامت، وذاك يملك الناطق، وهذا يمارس القزّ، وهذا يمارس الصّوف، وهذا ينظر في الصّرف، وهذا يبيع الحيوان، وكلّ منهم صاحب مال ومباشر له، وعلى هذا المثال احتذى أهل العقل في مطالبهم، فصار هذا يملك بعقله غير ما يملك الآخر،

<<  <   >  >>