أعني أنّ هذا ينظر في الهندسة، وهذا في الطّبّ، وهذا في النّحو، وهذا في الفقه، والعبارة تمنع من إشباع هذا المعنى، وحصر هذا الفنّ، فعلى هذا أنحاؤه، وإنها لكثيرة إن لم تكن بلا نهاية.
وأمّا صنيعه، فهو الحكم بقبول الشيء وردّه، وتحسينه وتقبيحه، إذا كان المعروض عليه على جهته غير مموّه ولا مغشوش، ولا مشتبه فيه ولا ملبوس، فإن كان مموّها اختلف حكمه، لأنّ العقل يرى الباطل حقّا في وقت، ويرى الحقّ باطلا في وقت، معاذ الله من هذا، ذلك للحسّ المنقوص، والذّهن الملبوس، لأنّ العارض موّه معروضه على العقل، فحكم له بما يستحقّه، إلّا أن يكون العارض لم يشعر بذلك التّمويه، ولم يفطن لذلك الغشّ، فحينئذ يهديه العقل ويرشده، ويفتح عليه، وينصح له.
وأما قوله: وهل يعقل العقل؟ فإن الأولى أن يقال: العاقل يعقل بالعقل معقوله، ألا ترى أنّه يقال: السّراج أضاء البيت، ويبعد أن يقال: أضاء نفسه، لأنّه مضيء بنفسه، فليس به فقر إلى أن يضيء نفسه، وإنّما أضاء غيره ... ولو عقل العقل لعقل بالعقل، وهذا إذا استمرّ كان مردودا، ونحن إذا قلنا: عقل العاقل معقوله، فإنما نصفه بأنّه انفعل انفعال كمال، والعقل يرى من هذا الانفعال ألّا يتوخّى أنّه يعقل الإله الّذي هو به ما هو، فإنّه يجوز أن يضرّ به انفعال لائق به يكون عبارة عن شوقه إليه، وكماله به، واقتباسه منه، وهذا صراط حديد، والواطئ عليه على خطر شديد، والوقوف دونه أصدع بالحجّة، وأوضح للعذر، لأن الإنسان خوّار بالطّبع، وإن كان جسورا بالنّفس.
وأمّا قوله: وهل تتنفّس النّفس؟ فإن أريد بذلك النّفس النامية والحيوانيّة فهو قريب، وأمّا الناطقة فإنّ ذلك يبعد منها لأنّ ذلك التنفّس استمداد شيء به يكون الشيء حيّا أو كالحيّ، والناطقة غنيّة عن ذلك.
فإن قيل: فهل تقتبس من العقل وتستمدّ؟ قيل: هذا لا يسمّى تنفّسا، وليس اللفظ يبعده عن الحقيقة تأويل في الوضع، ولا وجه في الاعتمال وإدخال العويص في المكان الذي يحتاج فيه إلى رفع اللّبس وزوال الإشكال، مداجاة في العلم وخيانة للحكمة وجناية على المستنصح.
وأمّا مرتبته عند الإله فقد وضح بأنه كالشمس تطلع فتحيي، وتضيء فتنفع.
فإن قيل: فالعقل أيضا هكذا، قيل: العقل أيضا شمس أخرى، ولكنها تطلع على النفس التي ليست حاوية لجدار وسطح، وبرّ وبحر، وجبل وسهل، لأنّه لمّا كان العقل أشرق من النّفس- لأنّه مستخلف للنفس، والنفس خليفته- كان إشراقه ألطف، ومنافعه في إشراقه أشرف، وأيضا فإنّ الشمس تجدها بالحسّ لها غروب وطلوع، وتجلّ وكسوف، وليس كذلك العقل، لأن إشراقه دائم، ونوره منتشر، وطلوعه سرمد، وكسوفه معدوم، وتجلّيه غير متوقّف.