فإن قيل: نرى العقل يعزب عن الإنسان في وقت ويثوب إليه في وقت.
فالجواب أن الوصف الذي كنا ننعت به ونصدع ببيانه لم يكن لعقل زيد وعمرو، وبكر وخالد، لأن ذلك ينعت بالطّلوع والغروب، وبالحضور والغيوب، لأنه هاهنا مضاف ومنحاز، أو كالمنحاز، وليس كذلك هو، فإنّه هناك على بهجته التامّة، وسلطانه القاهر، وملكوته الأفيح، وبسيطه الفائق، وفضائه العريض.
وأمّا قوله: وهل ينفعل؟ فقد مرّ الكلام عليه في طيّ ما مرّ، وليس للتّكرار وجه، ولا في التّطويل عذر.
وأما قوله: فقسط الفعل أكثر، أم قسط الانفعال؟ فإنّ هذا يلحظ من وجهين، إذا لحظ قبوله من فيض الإله فقسط الانفعال أظهر، وإذا لحظ فيضه على النّفس فقسط الفعل فيه أكثر، لأنّه بجوده على غيره يشاركه من جاد عليه بجوده، وهذا لطيف جدّا.
وأمّا قوله: وما المعاد؟ فما أسهل مطالبة السائل بهذا الأمر الصّعب الهائل الذي كلّ أمر متعلّق به، وكلّ رجاء حائم حوله، وكلّ طمع متوجّه إليه، وكلّ شيء مقصور عليه، وكلّ إنسان به يهيم، وكلّ مصرّح عنه يصرّح، وكلّ كان عنه يكني، وكلّ مترنّم به يحدو، وكلّ لحن إليه يشير، وكلّ سامع إليه يطرب، ونرجع فنقول- على العيّ والبيان، وعلى الزّحف والعدوان:- إنّ عود النّفس إنما هو تخليتها للبدن إذا حان وقت التّخلية، إما لأن البدن غير محتمل لمادّة الحياة، وإمّا لأنّ النفس قد أزمعت أمرا آخر، ولا يتمّ لها ذلك إلّا بتخلية هذا، وإمّا لهما.
فإن قال قائل: فما نصيب الإنسان من عود النّفس الذي هو تخليتها للبدن وخروجها عنه، وترك استعمالها له؟ فالجواب من طريق التّمثيل، والرّضا بالرّأي الأصوب، والحكم الأجلى أن يقال: لو قيل لرجل من عرض النّاس وافر أو ناقص:
إنّك إذا فارقت هذا العالم بقيت عينك الباصرة، وأذنك السامعة، هل ترى ذلك نعمة عليك، وإحسانا إليك، فإنّ عينك إذا بقيت أبصرت العالم بعدك كما كنت تبصره وهي معك، بل تبصر أحسن من ذاك الإبصار، لأنّها كانت معك ترمد بسببك، وتعشى من أجلك، وربّما عرض لها سوء بسوء تدبيرك، أو باتفاق رديء عليك، من عشى أو عمى وخفش وعمش وعور وآفات كثيرة، وهي آمنة بعدك من هذه الأعراض المكروهة، والأحوال الداهية، فإنا نعلم حقّا وعيانا أنّه يقول: قد رضيت بل أتمنّى هذا، ومن لي به، أي إن أعطيت هذا فمن منّي أسمع وأبصر، وإذا كنت أكره الدنيا في حياتي إذا فقدتهما فكيف لا أحبّ الدّنيا إذا وجدتهما، فإن كان هذا التمثيل واقعا، وهذا التقريب نافعا، والحقّ في تضاعيفه واضحا، فليكن ذلك مطّردا في بقاء نفس الإنسان التي بها كان إنسانا، وبها كان ينعم في هذا العالم، وبها كان يعلم ويعرف ويحكم ويصيب، ويجد لذّة اللّذيذة من ناحية العقل والحسّ، وبها كان يتمنّى البقاء