والدّوام والخلود، وإنّما استحال ذلك التّمنّي من أجل كونه وفساده اللّذين لم يكن بدّ من انتهائهما إلى الفناء الّذي هو مفارقة النّفس الجسد وتخليتها للبدن، ونسبة نفس الإنسان إلى الإنسان أوكد وألصق من نسبة العين إليه، ألا ترى أنّه بالنّفس إنسان، وبالبدن حافظ لشكل الإنسان، فإذا كان للإنسان في هذا التّمثيل فائدة متمنّاة، وحالة محبوبة هنيئة، أعني في بقاء العين والأذن حتى يبصر بإحداهما هذا العالم المحشوّ بالآفات، ويسمع بالأخرى ما يجري فيه من ضروب الاستحالات، فبالحريّ أن يكون رضاه ببقاء النّفس في محلّ الرّوح والأمن، ومقام الكرامة والسّكينة على حال الخلود والطّمأنينة، إنّ هذا لعجيب، وأعجب من هذا العجيب عقل لا يعلق به، وروح لا يهشّ لسماعه، ونفس لا تجد حلاوته، وصدر لا يتصدّع طربا عليه، والتياحا إليه، فإنّ من لم يشعر بهذه الفائدة، ولم يحمد الله على هذه النّعمة، لعازب الرّأي، ضعيف العقل، خفيف المثقال، رديء الاختيار، قليل الحصافة، سيّئ النّظر، حيوان خسيس، في مسك إنسان رئيس، فقد بان- على مذهب التقريب- ما المعاد المشار إليه، وما الإنسان منه، وما لنفسه به.
وأمّا قوله: وما الفرق بين الأنفس، أي نفس زيد وعمرو وبكر وخالد، وما الفرق أيضا بين أنفس أصناف الحيوان. فإنّما الفرق بين هذه الأنفس بقدر قسط كلّ واحد منهم منها، وهذه الأقساط إذا اجتمعت تفاوتت، وإذا تفاوتت كانت منها نفس باقية حيّة، ونفس فانية ميّتة، ألا ترى الشمس كيف تطلع على هذه المواضع المختلفة بالعلو والسّفل، وبالتّعريج والاستقامة، والأشكال الكثيرة، فيقول كلّ إنسان: مشرقتي أطيب من مشرقة فلان، وما أشبه هذا الكلام، وطلوع الشمس على جميعها طلوع واحد، ولكنّ حظوظ البقاع منها مختلفة، فليس بمنكر أن تكون نفس زيد أنجى من الكدر، وأخلص من الآفة، وأوصل إلى السعادة، ونفس بكر على خلاف ذلك، ومراتب هذه الأنفس موقوفة على الإضافات الحاصلة لها بأصحابها، والأنصباء المذخورة لها باكتسابها.
فأمّا أنفس أصناف الحيوان كالفرس والحمار فإنّها أنفس ناقصة غير كاملة، وهي ضعيفة، لأنّها لم تجد إلّا الإحساس والحركات، لم يشعّ فيها نور النّفس الشريفة، ولم ينبثّ فيها شعاع العقل الكريم، فوجب من هذا الوجه أن تكون تابعة لأبدانها، جارية على فسادها وبطلانها، لأنّ الحكمة انتهت إلى ذلك الحدّ في كونها حشوا لهذا العالم وزينة ومنافع ومبالغ إلى غايات وأغراض.
وأمّا قوله: وهل الملك حيوان؟ فقد علمت أنّه يقال له حيّ، وهذا وقف على الأسماء الجارية، والعادات القائمة، وكأنّ الحيوان إنما شاع في غير الملك لما فيه من الحسّ والحركة والاهتداء والتّصرّف على ما لاق بجنسه ونوعه وشخصه، فأما ما يعلو