أعجب هذا! أنت حمّلت الرسالة وأطالب غيرك بالجواب؟ قال: فتلوّيت حياء من ابن يوسف، فقال: هات يا هذا الحديث بفصّه، فو الله لا أقنع إلّا به، ما هذا التّواني والتكاسل، فكرهت اللّجاج، فسردته على وجهه، ولم أغادر منه حرفا، وابن يوسف يتقدّد في إهابه، ويتغيّر وجهه عند كلّ لفظة تمرّ به، فأقبل عليه الملك وقال: كيف ترى يا أبا القاسم الكيّس؟ فقال: يا مولانا، إنما أنا أقضي الحاجة بك، فإذا لم تقضها كيف أكون؟ فإن الحوائج كلّها إليك.
قال: صدقت، أنا لا أقضي حاجة لك، لأنك لا تقصد بها وجه الله، ولا تبغي بها مكرمة، ولا تحفظ بها مروءة، وإنّما ترتشي عليها، وتصانع بها، وتجعلني بابا من أبواب تجارتك وأرباحك، ولو كنت أعلم أنّك تقضي حاجة لله أو لمكرمة أو لرحمة ورقّة لكان ذلك سهلا عليّ، وخفيفا عندي، لكنّك معروف المذهب في الطّمع والحيلة، وجرّ النار إلى قرصك، وشرهك في جميع أحوالك، وليس الذّنب لك، ولكن لمن رآك إنسانا وأنت كلب.
وصدق- صدّق الله قوله- فإنّه كان أخسّ خلق الله، وأنتن الناس، وأقذر الناس، لا منظر ولا مخبر.
وكانت أمّه مغنّية من أهل البيضاء، وأبوه من أسقاط الناس، ونشأ مع أشكاله، وكان في مكتب الرّبضيّ على أحوال فاحشة، وورّق زمانا، ثم إنّ الزمان نوّه به، ونبّه عليه، ومثل هذا يكون، والأيام ظهور وبطون، وكما يسقط الفاضل إذا عانده الجدّ، كذلك يرتفع السّاقط إذا ساعده الجدّ فهذا هذا.
فقال: ما كان هذا الحديث عندي، وإنّه لمن الغريب.
ثم قال: كيف خبرك في الفتنة التي عرضت وانتشرت، وتفاقمت وتعاظمت؟
فكان من الجواب: خبر من شهد أوّلها، وغرق في وسطها، ونجا في آخرها.
قال: حدّثني فإنّ في روايته وسماعه تبصرة وتعجّبا، وزيادة في التّجربة. وقد قيل: تجارب المتقدّمين، مرايا المتأخّرين، كما يبصر فيها ما كان، يتبصّر بها فيما سيكون، والشاعر قد قال:
والدّهر آخره شبه بأوّله ... ناس كناس وأيّام كأيّام
وليس من حادثة ماضية إلّا وهي تعرّفك الخطأ والصّواب منها لتكون على أهبة في أخذك وتركك، وإقدامك ونكولك، وقبضك وبسطك، وهذا وإن كان لا يقي كلّ الوقاية، فإنّه لا يلقي في التّهلكة كلّ الإلقاء.
كان أوّل هذه الحادثة الفظيعة البشعة الّتي حيّرت العقول وولّهت الألباب، وسافر عنها التوفيق، واستولى عليها الخذلان، وعدمت فيه البصائر، شيء كلا شيء،