وإذا أراد الله [تعالى ذكره] أن يعظّم صغيرا فعل، وإذا شاء أن يصغّر عظيما قدر، له الخلق والأمر، ولا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، ولا صارف لقدره، وقدرة الإنسان محدودة، واستطاعته متناهية، واختياره قصير، وطاقته معروفة، وكلّ ما جاوز هذا الحدّ وهذا التّناهي فهو الذي يجري على الإنسان شاء أو أبي، كره أو رضي، وهاهنا يفزع إلى الله من نازل المكروه، وحادث المحذور.
وذاك أنّ الرّوم تهايجت على المسلمين، فسارت إلى نصيبين بجمع عظيم زائد على ما عهد على مرّ السّنين، وكان هذا في آخر سنة اثنتين وستّين، فخاف الناس بالموصل وما حولها، وأخذوا في الانحدار على رعب قذف في قلوبهم، ليكون سببا لما صار إليه الأمر، وماج الناس بمدينة السّلام واضطربوا، وتقسّم هذا الموج والاضطراب بين الخاصّة والعامّة، وصارت العامّة طائفتين، طائفة ترقّ للدّين ولما دهم المسلمين، وتستعظم ذلك فرقا مما ينته إليه، بعد ما يؤتى عليه، وطائفة وجدت فرصتها في العيث والفساد، والنّهب والغارة بوساطة التعصّب للمذهب.
وافترقت الخاصة أيضا فرقتين: فرقة أحبّت أن تكون للنّاس حميّة للإسلام، ونهوض إلى الغزو، وانبعاث في نصرة المسلمين، إذ قد أضرب السّلطان عن هذا الحديث، لانهماكه في القصف والعزف، وإعراضه عن المصالح الدّينيّة، والخيرات السّياسيّة، وطائفة اختارت السكون والإقبال على ما هو أحسم لمادّة الوثوب والهيج، وأقطع لشغب الشاغب، وأقمع لخلاف المتّهم، فإنّ الاختلاف إذا عرض خفي موضع الاتّفاق، والتبس الأمر على الصّغار والكبار، وبمثل هذا فتحت البلاد، وملكت الحصون، وأزيلت النّعم، وأريقت الدّماء، وهتكت المحارم، وأبيدت الأمم، ونعوذ بالله من غضب الله وممّا قرّب من سخط الله، وإذا أراد الله أمرا كثّر بواعثه، وفرّق نوابثه «١» .
ولمّا اشتعلت النائرة، واشتغلت الثّائرة، صاح الناس: النّفير النّفير، وإسلاماه، وا محمّداه، وا صوماه، وا صلاتاه، وا حجّاه، وا غزواه، وا أسراه، في أيدي الرّوم والطّغاة. وكان عزّ الدّولة قد خرج في ذلك الأوان إلى الكوفة للصّيد، ولأغراض غير ذلك، فاجتمع الناس عند الشيوخ والأماثل والوجوه والأشراف والعلماء، وكانت النّيّة بعد حسنّة، وللناس في ظلّ السلطان مبيت ومقيل، ويستعذبون ورده، ويستسهلون صدره، وعجّوا وضجّوا، وقالوا: الله الله، انظروا في أمر الضّعفاء وأحوال الفقراء، واغضبوا لله ولدينه، فإنّ هذا الأمر إذا تفاقم تعدّى ضعفاءنا إلى أقويائنا، وبطل رأي كبرائنا في تدبير صغرائنا، والتّدارك واجب، وهو الإسلام، إن لم نذبّ عنه غلب الكفر، وهو الأمن والسكون إن لم يحفظا، فهو الخوف والبلاء وذهاب الحرث