قليل. فلمّا دعي قائدا وأطاعه رجال وأعطاهم وفرّق فيهم، وطلب الرّآسة عليهم، صار جانبه لا يرام، وحماه لا يضام.
فممّا ظهر من حسن خلقه- مع شرّه ولعنته، وسفكه للدّم، وهتكه للحرمة، وركوبه للفاحشة، وتمرّده على ربّه القادر، ومالكه القاهر- أنّه اشترى جارية كانت في النّخّاسين عند الموصليّ بألف دينار، وكانت حسناء جميلة، فلمّا حصلت عنده حاول منها حاجته، فامتنعت عليه، فقال لها: ما تكرهين منّي؟ قالت: أكرهك كما أنت.
فقال لها: فما تحبّين؟ قالت: أن تبيعني، قال لها: أو خير من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار؟ قالت: نعم، فأعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي ابن الدّقاق عند مسجد ابن رغبان، فعجب الناس من نفسه وهمّته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على كراهتها، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله في مثلها.
قال الوزير: هذا والله طريف، فما كان آخر أمره؟ قلت: صار في جانب أبي أحمد الموسويّ وحماه، ثم سيّره إلى الشأم فهلك بها.
قال: وكيف سلمت في هذه الحالات؟
قلت: ومتى سلمت؟ جاءت النّهابة إلى بين السّورين وشنّوا الغارة واكتسحوا ما وجدوا في منزلي من ذهب وثياب وأثاث، وما كنت ذخرته من تراث العمر، وجرّدوا السّكاكين على الجارية في الدّار يطالبونها بالمال، فانشقت مرارتها، ودفنت في يومها، وأمسيت وما أملك مع الشّيطان فجرة، ولا مع الغراب نقرة.
أيّها الشيخ- وفّقك الله في جميع أحوالك، وكان لك في كلّ مقالك وفعالك- إنما نثرت بالقلم ما لاق به، فأمّا الحديث الّذي كان يجري بيني وبين الوزير فكان على قدر الحال والوقت والواجب، والاتّساع يتبع القلم ما لا يتبع اللّسان، والرّويّة تتبع الخطّ ما لا تتبع العبارة، ولما كان قصدي فيما أعرضه عليك، وألقيه إليك، أن يبقى الحديث بعدي وبعدك، لم أجد بدّا من تنميق يزدان به الحديث، وإصلاح يحسن معه المغزى، وتكلّف يبلغ بالمراد الغاية، فليقم العذر عندك على هذا الوصف، حتى يزول العتب، ويستحقّ الحمد والشّكر.