قال لي أبو الوفاء- وهو الّذي شرح لي المجلس من أوّله إلى آخره-: لقد شاهدت من عزّ الدولة في ذلك المجلس، المنصور «١» في جدّه وشهامته، وثبات قلبه وقوّة لسانه، مع بحح لذيذ ولثغة حلوة.
قال: لو قد قلت له بعد ذلك: أيّها الأمير، ما ظننت أنك إذا خلعت رداءك ونزعت حذاءك تقول ذلك المقال، وتجول ذلك المجال، وتنال ذلك المنال، لقد انصرف ذلك الرّهط على هيبة لك شديدة، وتعظيم بالغ، ولقد تداولوا لفظك، وتتبّعوا معانيك، وتشاحّوا على نظمك، وقالوا: ما ينبغي لأحد أن يسيء ظنّه بأحد إلّا بعد الخبرة والعيان، وإلّا بعد الشّهادة والبيان، أهذا يقال له متخلّف أو ناقص؟ لله درّه من شخص! ولله أبوه من فتى مدره! ولما بلغ هذا المجلس الّذي قعدوا عن المسير إليه- أعني عزّ الدولة- حمدوا الله تعالى، وعلموا أنّ الخيرة كانت قرينة اختيارهم.
قال الوزير: قرأت ما دوّنه الصّابي أبو إسحاق في (التّاجيّ) فما وجدت هذا الحديث فيه.
قلت: لعلّه لم يقع إليه، أو لعلّه لم ير التّطويل به، أو لعلّه لم يستخفّ ذكر عز الدّولة على هذا الوجه.
قال: هذا ممكن، فهل سمعت في أيام الفتنة بغريبة؟
قلت: كلّ ما كنّا فيه كان غريبا بديعا، عجيبا شنيعا، حصل لنا من العيّارين قوّاد، وأشهرهم، ابن كبرويه، وأبو الدّود، وأبو الذّباب، وأسود الزّبد، وأبو الأرضة، وأبو النّوابح، وشنّت الغارة، واتّصل النّهب، وتوالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة، أعني الكرخ.
فمن غريب ما جرى أنّ أسود الزّبد كان عبدا يأوي إلى قنطرة الزّبد ويلتقط النّوى ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهو ولعب، وهو عريان لا يتوارى إلا بخرقة، ولا يؤبه له، ولا يبالى به، ومضى على هذا دهر، فلما حلّت النّفرة أعني لمّا وقعت الفتنة، وفشا الهرج والمرج، ورأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ السّيف وأعمله، طلب سيفا وشحذه، ونهب وأغار وسلب، وظهر منه شيطان في مسك إنسان، وصبح وجهه، وعذب لفظه، وحسن جسمه، وعشق وعشق، والأيّام تأتي بالغرائب والعجائب، وكان الحسن البصريّ يقول في مواعظه: المعتبر كثير، والمعتبر