في هذا الفنّ، والباحث عن هذا المستكنّ، أنه حالم، وأنّ الحلم لا ثمرة له، ولا جدوى منه.
وهذا كلّه هكذا ما دام مقيسا إلى الأمور القائمة بشهادة الإحساس، فأمّا إذا صفا الناظر- أعني ناظر العقل- من قذى الحسّ، فإنّ المطلوب يكون حاضرا أكثر ممّا يكون غيره ظاهرا مستبانا، وليست شهادة العبد كشهادة المولى، ولا نور السّهى كنور القمر.
قال: أنشدني أبياتا غريبة جزلة.
فأنشدت لهدبة العذريّ:
سآوي إلى خير فقد فاتني الصّبا ... وصيح بريعان الشّباب فنفّرا
أمور وألوان وحال تقلّبت ... بنا وزمان عرفه قد تنكّرا
أصبنا بما لو أنّ سلمى أصابه ... تسهّل من أركانه ما توعّرا
وإن ننج من أهوال ما خاف قومنا ... علينا فإنّ الله ما شاء يسّرا
وإن غالنا دهر فقد غال قبلنا ... ملوك بني نصر وكسرى وقيصرا
وذي نيرب قد عابني لينالني ... فأعيا مداه عن مداي فأقصرا
فإن يك دهر نالني فأصابني ... بريب فما تشوي الحوادث معشرا
فلست إذا الضّرّاء نابت بجبّإ ... ولا جزع إن كان دهر تغيّرا
فقيل: ما الجبّأ؟ فقال: الجبان.
قال أبو سعيد: حكى العلماء أنّ فلانا جبّأ، إذا نكل.
فقال: ما أمتن هذا الكلام، وألطف هذا الجدد! وما أبعده من تلفيق الضّرورة، وهجنة التكلّف، لولا أنّ سامعه ربّما تطيّر به، وانكسر عليه.
فكان الجواب: قد مرّ في الفأل والزّجر والطّيرة والاعتياف ما إذا تحقّق لم يعج على مثل هذا الاستشعار، ولعمري إنّ المذكور والمسموع إذا كان حسنا وجميلا ومحبوبا ومتمنّى، كان أخفّ على القلب، وأخلط بالنّفس، وأعبث بالرّوح، وكذلك إذا كان ذلك على الضّدّ، فإنّه يكون أزوى للوجه، وأكرب للنّفس، ولكنّ الأمور في الخيرات والشرور ليست فاشية من الطّيرة والعيافة، ولا جارية على هذه الحدود المعروفة، وهي على مقاصدها التي هي غاياتها، ومتوجّهاتها التي هي نهاياتها، وإنما هذه الأخلاق عارضة للنّساء وأشباه النساء، ومن بنينه ضعيفة، ومادّته من العقل طفيفة، وعادته الجارية سخيفة، وإلّا فبأيّ برهان صحّ أنّ الكلام الطّيّب يجلب المحبوب ويكون علّة له؟! وأنّ اللّفظ الخبيث يجلب المكروه ويكون علّة له؟! هذا خور في طباع قائله، وتأنّث في عنصر مستشعره، ولو سلك العلماء والبصراء هذا الطّريق في كلّ حال وفي كلّ أمر لأدّى ذلك إلى فساد عامّ، وآثر ما في هذه القصّة أنّ