يجب على كلّ من آتاه الله رأيا ثاقبا، ونصحا حاضرا، وتنبّها نافعا، أن يخدمك متحرّيا لرسوخ دعائم المملكة بسياستك وريادتك، قاضيا بذلك حقّ الله عليه في تقويتك وحياطتك. وإني أرى على بابك جماعة ليس بالكثيرة- ولعلّها دون العشرة- يؤثرون لقاءك والوصول إليك لما تجنّ صدورهم من النصائح النافعة، والبلاغات المجدية، والدّلالات المفيدة، ويرون أنّهم إذا أهلّوا لذلك فقد قضوا حقّك، وأدّوا ما وجب عليهم من حرمتك، وبلغوا بذلك مرادهم من تفضّلك واصطناعك، وتقديمك وتكريمك، والحجاب قد حال بينهم وبينك، ولكلّ منهم وسيلة شافعة، وخدمة للخيرات جامعة، منهم- وهو أهل الوفاء- ذوو كفاية وأمانة، ونباهة ولباقة، ومنهم من يصلح للعمل الجليل، ولرتق الفتق العظيم، ومنهم من يمتع إذا نادم، ويشكر إذا اصطنع، ويبذل المجهود إذا رفع، ومنهم من ينظم الدّرّ إذا مدح، ويضحك الثّغر إذا مزح، ومنهم من قعد به الدّهر لسنّه العالية، وجلابيبه البالية، فهو موضع الأجر المذخور، وناطق بالشّكر المنظوم والمنثور، ومنهم طائفة أخرى قد عكفوا في بيوتهم على ما يعنيهم من أحوال أنفسهم، في تزجية عيشهم، وعمارة آخرتهم، وهم مع ذلك من وراء خصاصة مرّة، ومؤن غليظة، وحاجات متوالية، ولهم العلم والحكمة والبيان والتّجربة، ولو وثقوا بأنّهم إذا عرضوا أنفسهم عليك، وجهّزوا ما معهم من الأدب والفضل إليك حظوا منك، واعتزّوا بك، لحضروا بابك، وجشموا المشقّة إليك، لكنّ اليأس قد غلب عليهم، وضعفت منّتهم، وعكس أملهم، ورأوا أنّ سفّ التراب، أخفّ من الوقوف على الأبواب، إذا دنوا منها دفعوا عنها، فلو لحظت هؤلاء كلّهم بفضلك، وأدنيتهم بسعة ذرعك وكرم خيمك، وأصغيت إلى مقالتهم بسمعك، وقابلتهم بملء عينك، كان في ذلك بقاء للنّعمة عليك، وصيت فاش بذكرك، وثواب مؤجّل في صحيفتك، وثناء معجّل عند قريبك وبعيدك، والأيام معروفة بالتقلّب، واللّيالي ماخضة بما يتعجّب منه ذو اللّبّ، والمجدود من جدّ في جدّه، أعني من كان جدّه في الدّنيا موصولا بحظّه من الآخرة، ولأن يوكل العاقل بالاعتبار بغيره، خير من أن يوكل غيره بالاعتبار به.
أيّها الوزير، اصطناع الرّجال صناعة قائمة برأسها، قلّ من يفي بربّها «١» ، أو يتأتّى لها، أو يعرف حلاوتها، وهي غير الكتابة التي تتعلّق بالبلاغة والحساب.
وسمعت ابن سورين يقول: آخر من شاهدنا ممّن عرف الاصطناع، واستحلى الصّنائع، وارتاح للذّكر الطّيّب، واهتزّ للمديح، وطرب على نغمة السائل، واغتنم خلّة المحتاج، وانتهب الكرم انتهابا، والتهب في عشق الثّناء التهابا، أبو محمد