فقال- حرس الله روحه-: قل- عافاك الله- ما بدا لك، فأنت مجاب إليه ما دمت ضامنا لبلوغ إرادتنا منك، وإصابة غرضنا بك.
قلت: يؤذن لي في كاف المخاطبة، وتاء المواجهة، حتّى أتخلّص من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض، وأركب جدد القول من غير تقيّة ولا تحاش ولا محاوشة ولا انحياش.
قال: لك ذلك، وأنت المأذون فيه، وكذلك غيرك، وما في كاف المخاطبة وتاء المواجهة؟ إن الله تعالى- على علوّ شأنه، وبسطة ملكه، وقدرته على جميع خلقه- يواجه بالتاء والكاف، ولو كان في الكناية بالهاء رفعة وجلالة وقدر ورتبة وتقديس وتمجيد لكان الله أحقّ بذلك ومقدّما فيه، وكذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء قبله- عليهم السلام- وأصحابه- رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان- رحمة الله عليهم- وهكذا الخلفاء، فقد كان يقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزّك الله، ويا عمر أصلحك الله، وما عاب هذا أحد، وما أنف منه حسيب ولا نسيب، ولا أباه كبير ولا شريف، وإنّي لأعجب من قوم يرغبون عن هذا وشبهه، ويحسبون أن في ذلك ضعة أو نقيصة أو حطّا أو زراية، وأظن أنّ ذلك لعجزهم وفسولتهم «٢» ، وانخزالهم وقلّتهم وضؤولتهم، وما يجدونه من الغضاضة في أنفسهم، وأن هذا التكلّف والتجبّر يمحوان عنهم ذلك النقص، وذلك النقص ينتفي بهذا الصلف، هيهات، لا تكون الرياسة حتّى تصفو من شوائب الخيلاء، ومن مقابح الزّهو والكبرياء.
فقلت: أيّها الوزير، قد خالطت العلماء، وخدمت الكبراء وتصفّحت أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، فما سمعت هذا المعنى من أحد على هذه السّياقة الحسنة والحجّة الشافية والبلاغ المبين، وقد قال بعض السلف الصالح:«ما تعاظم أحد على من دونه إلّا بقدر ما تصاغر لمن فوقه» . والتصاغر دواء النفس، وسجيّة أهل البصيرة في الدنيا والدين، ولذلك قال ابن السمّاك للرشيد- وقد عجب من رقّته وحسن إصاخته لموعظته وبليغ قبوله لقوله وسرعة دمعته على وجنته-: «يا أمير المؤمنين، لتواضعك في شرفك أشرف من شرفك، وإني أظنّ أنّ دمعتك هذه قد أطفأت أودية من النار وجعلتها بردا وسلاما» .
قال: هذا باب مفترق فيه، ورجعنا إلى الحديث فإنه شهيّ، سيّما إذا كان من خطرات العقل، قد خدم بالصواب في نغمة ناغمة، وحروف متقاومة، ولفظ عذب،