ومأخذ سهل، ومعرفة بالوصل والقطع، ووفاء بالنثر والسّجع، وتباعد من التكلّف الجافي، وتقارب في التلطّف الخافي، قاتل الله ذا الرّمّة حيث يقول:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وكنت أنشد أيّام الصّبا هذا بالذال، وكان ذلك من سوء تلقين المعلّم، وبالعراق ردّ عليّ وقيل: هو بالزاي، وقد أجاد القطاميّ أيضا وتغزّل في قوله:
فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي
قلت: ولهذا قال خالد بن صفوان حين قيل له: أتملّ الحديث؟ قال: إنّما يملّ العتيق، والحديث معشوق الحسّ، بمعونة العقل، ولهذا يولع به الصبيان والنساء.
فقال: وأيّ معونة لهؤلاء من العقل ولا عقل لهم؟
قلت: ههنا عقل بالقوّة وعقل بالفعل، ولهم أحدهما وهو العقل بالقوّة، وههنا عقل متوسّط بين القوّة والفعل مزمع، فإذا برز فهو بالفعل، ثم إذا استمرّ العقل بلغ الأفق، ولفرط الحاجة إلى الحديث ما وضع فيه الباطل، وخلط بالمحال ووصل بما يعجب ويضحك ولا يؤول إلى تحصيل وتحقيق، مثل (هزار أفسان)«١» وكلّ ما دخل في جنسه من ضروب الخرافات، والحسّ شديد اللهج بالحادث والمحدث والحديث، لأنّه قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطّرافة. ولهذا قال بعض السّلف:«حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدّثور» ، كأنّه أراد اصقلوها واجلوا الصّدأ عنها، وأعيدوها قابلة لودائع الخير، فإنها إذا دثرت- أي صدئت، أي تغطّت، ومنه الدّثار الّذي فوق الشّعار- لم ينتفع بها، والتعجّب كلّه منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهما لكلّ- ما قدم: إمّا بالزمان، وإمّا بالدهر، ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر الّتي بعد العهد بمبادئها، وسيمتدّ العهد جدا إلى نهاياتها، وأمّا ما قدم بالدهر، فكالعقل والنفس والطبيعة، فأمّا الفلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقه الخفيّة، فقد أخذت من الدهر صورة إلهيّة، وأحدثت فيما سلف منها صورة زمانيّة.
فقال: بقي أن يتّصل به نعت العتيق والخلق.
فكان من الجواب أنّ العتيق يقال على وجهين: فأحدهما يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهذا موجود في قول العرب:«البيت العتيق» ، والآخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول. فأمّا قولهم:«عبد عتيق» ، فهو داخل في المعنى الأوّل، لأنّه أكرم بالعتق، وارتفع عن العبوديّة، فهو كريم. وكذلك «وجه عتيق» لأنّه أعتقته الطبيعة من الدّمامة والقبح. وكذلك «فرس عتيق» .