هذا بالأمس أبو الفضل العبّاس بن الحسين الوزير- وهو في وزارته وبسطة أمره ونهيه- قيل له ذات يوم: هذا التركي ساسنكر تفيّأ بظلّه، واعتصم بحبله، واستسق بسجله، وارتو من سؤره، ولا يبلغه عنك، ما يوحشه منك، ويجفيه عليك. وقد قيل:
اسجد لقرد السوء في زمانه
وإذا لم تقدر على قطع يد جائرة، فقبّلها متهمة منجدة غائرة. فلم يفعل، حتى وجد أعداؤه طريقا إليه، فسلكوه وأوقعوه.
ثم قيل له في الوزارة الثانية: قد ذقت مرارة النّكبة، وتحرّقت بنار الشماتة، وتأرّقت على فرطات العجز والفسالة، وقد كان من ذلك كلّه ما كان، ودار لك بما تمنّيت الزّمان، فانظر أين تضع الآن قدمك، وبأيّ شيء تدير لسانك وقلمك، فإنّ مخلّصك من ورطتك بالمرصاد، وقد وعدت من نفسك إن أعاد الله يدك إلى البسطة، وردّ حالك إلى السرور والغبطة، أنّك تجمل المعاملة، وتنسى المقابلة، وتلقى وليّك وعدوّك بالإحسان إلى هذا، والكفّ عن هذا، حتى يتساويا بنظرك، ويتعبّدا لك بتفضّلك.
فكان من جوابه ما دلّ على عتوّه وثباته، لأنّه قال: أما سمعتم الله تعالى حيث يقول: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
[الأنعام: ٢٨] .
وقال لي القومسيّ- ولم يعلم ما في فحوى هذا الكلام-: ما ذاك؟ قلت:
فحواه ولو عادوا إلى ما نهوا عنه لعدنا إلى مقابلتهم بما استحقّوا عليه.
وصدق ما قال الله عزّ وجلّ، ما لبث ذلك الإنسان بعد هذا الكلام إلّا قليلا حتى أورده ولم يصدره، وأعثره ولم ينعشه، وسلّم إلى عدوّه حتّى استلّ روحه من بين جنبيه، شافيا به ومشتفيا منه، وكان عاقبة أمره خسرا، ولو اتقى الله لكان آخر أمره يسرا. والله المستعان.
وهذا بعده محمد بن بقيّة طغى وبغى، واقتحم ظلمات الظلم والعسف، وطار بجناح اللهو والعزف، والشّرب والقصف، وملّ نعمة الله عليه، وضلّ بين إمهال الله وإملائه، فحاق به ما ذهبت عليه نفسه وماله، وخرّب بيته، وافتضح أهله، وكيف كان يسلم؟ أم كيف كان ينجو وقد قتل ابن السّرّاج بلا ذنب، والجرجرائيّ بلا حجّة، وضرب ابن معروف بالسّياط وأبا القاسم- أخا لأبي محمد القاضي- وشهّره على جمل في الجانب الشرقيّ؟! والتّشفّي حلو العلانية، ولكنّه مرّ العاقبة، وكأنّ الحفيظة إنما خلقت لتعتقد، والحقد إنما وجد ليبلغ به ما يسرّ الشيطان.