للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قد شاهدت ناسا في السّفر والحضر، صغارا وكبارا وأوساطا، فما شاهدت من يدين بالمجد، ويتحلّى بالجود، ويرتدي بالعفو، ويتأزّر بالحلم، ويعطي بالجزاف، ويفرح بالأضياف، ويصل الإسعاف بالإسعاف، والإتحاف بالإتحاف، غيرك.

والله إنّك لتهب الدرهم والدينار وكأنّك غضبان عليهما، وتطعم الصادر والوارد كأنّ الله قد استخلفك على رزقهما، ثم تتجاوز الذهب والفضّة إلى الثياب العزيزة، والخلع النفيسة، والخيل العتاق، والمراكب الثقال، والغلمان والجواري، حتّى الكتب والدفاتر وما يضنّ به كلّ جواد، وما هذا من سجايا البشر إلّا أن يكون فاعل هذا نبيّا صادقا، ووليّا لله مجتبى، فإنّ الله قد أمّن هذا الصنف من الفقر، ورفع من قلوبهم عزّ المال، وهوّن عليهم الإفراج عن كلّ منفس، ياقوتا كان أو درّا ذهبا كان أو فضّة، كفاك الله عين الحاسدين، ووقاك كيد المفسدين، الّذين أنعمت عليهم بالأمس على رؤوس الأشهاد، وكانوا كحصى فجعلتهم كالأطواد، وهم يكفرون أياديك، ويوالون أعاديك، ويتمنّون لك ما أرجو أنّ الله يعصبه برؤوسهم، وينزله على أرواحهم، ويذيقهم وبال أمرهم، ويجعلهم عبرة لكلّ من يراهم ويسمع بهم، كان الله لك ومعك، وحافظك وناصرك.

أطلت الحديث تلذّذا بمواجهتك، ووصلته خدمة لدولتك، وكرّرته توقّعا لحسن موقعه عندك، وأعدته وأبديته طلبا للمكانة في نفسك.

وأرجو إن شاء الله ألّا أحرم هبّة من ريحك، ونسيما من سحرك، وخيرة بنظرك. لم أوفّق في هذه الكلمة الأخيرة، والله ما يمرّ بي يأس من إنعامك فأقوّيه بالرّجاء، ولا يعتريني وهم في الخيبة لديك فأتلافاه بالأمل. إنّما قصارى أمنيّتي إذا حكّمت أن أعطى فيك سؤلي بالبقاء المديد، والأمر الرّشيد، والعدوّ الصريع، والوليّ الرّفيع، والدّولة المستتبّة، والأحوال المستحبّة، والآمال المبلوغة، والأمانيّ المدركة، مع الأمر والنّهي النّافذين، بين أهل الخافقين، والله يبلغني ذلك بطوله ومنّه.

وآخر ما أقول، أيّها الوزير: مر بالصّدقات، فإنّها مجلبة السلامات والكرامات، مدفعة للمكاره والآفات، واهجر الشراب، وأدم النظر في المصحف، وافزع إلى الله في الاستخارة، وإلى الثّقات بالاستشارة، ولا تبخل على نفسك برأي غيرك، وإن كان خاملا في نفسك، قليلا في عينك، فإنّ الرّأي كالدّرّة التي ربّما وجدت في الطّريق وفي المزبلة، وقلّ من فزع إلى الله بالتوكّل عليه، وإلى الصّديق بالإسعاد منه، إلّا أراه الله النّجاح في مسألته، والقضاء لحاجته، والسلام.

فقال لي الوزير بعد ما قرأ الرّسالة: يا أبا مزيد، بيّضتها، وعجبت من تشقيق القول فيها، ومن لطف إيرادك لها، ومن بلّة ريقك بها.

<<  <   >  >>