وعيشا إذا جادتهم السماء، وصدقتهم الأنواء «١» ، وازدانت الأرض، فهدّلت الثمار، واطّردت الأودية، وكثر اللّبن والأقط والجبن واللّحم والرّطب والتّمر والقمح، وقامت لهم الأسواق، وطابت المرابع وفشا الخصب، وتوالى النّتاج، واتّصلت الميرة، وصدق المصاب وأرفغ «٢» المنتجع، وتلاقت القبائل على المحاضر، وتقاولوا وتضايفوا، وتعاقدوا وتعاهدوا، وتزاوروا وتناشدوا، وعقدوا الذّمم، ونطقوا بالحكم، وقروا الطّرّاق، ووصلوا العفاة، وزوّدوا السابلة، وأرشدوا الضّلّال، وقاموا بالحمالات «٣» وفكّوا الأسرى، وتداعوا الجفلى «٤» ، وتعافوا النّقرى «٥» ، وتنافسوا في أفعال المعروف، هذا وهم في مساقط رؤوسهم، بين جبالهم ورمالهم، ومناشئ آبائهم وأجدادهم، وموالد أهلهم وأولادهم، على جاهليّتهم الأولى والثانية، وقد رأيت حين هبّت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملّة، وعزّت ملّتهم بالنبوّة، وغلبت نبوّتهم بالشّريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضّرت خلافتهم بالسياسة الدينيّة والدّنيويّة، كيف تحوّلت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر، وهذه النوادر من المآثر عفوا، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهوا رهوا، وهكذا يكون كلّ شيء تولّاه الله بتوفيقه، وساقه إلى أهله بتأييده، وحلّى مستحقّيه باختياره، ولا غالب لأمر الله، ولا مبدّل لحكم الله، ولذلك قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[آل عمران: ٢٦] . ولله في خلقه أسرار، تتصرّف بها دوائر الليل والنهار، وتذلّلها مجاري الأقدار، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار.
عزّ إلها معبودا، وجلّ ربّا محمودا مقصودا. وبعد، فالّذي لا شكّ فيه من وصف العرب، ولا جاحد له من حالها، أنه ليس على وجه الأرض جيل من الناس ينزلون القفر، وينتجعون السحاب والقطر، ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها، ويستبدّون في مصالحهم بكلّ ما عزّ وهان، وبكلّ ما قلّ وكثر، وبكل ما سهل وعسر، ويرجون الخير من السماء في صوبها، ومن الأرض في نباتها، مع مراعاة الأوان بعد الأوان، وثقة بالحال بعد الحال وتبصرة فيما يفعل ويجتنب، ما للعرب فيما قدّمنا وصفه، وكرّرنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب، واللّين والقسوة، والحرّ والبرد،