للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمثلتها، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها، وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول، وصحّة هذا الحكم، فالحظ عرض اللّغات الّذي هو بين أشدّها تلابسا وتداخلا، وترادفا وتعاظلا وتعسّرا وتعوّصا، وإلى ما بعدها ممّا هو أسلس حروفا، وأرقّ لفظا، وأخفّ اسما، وألطف أوزانا، وأحضر عيانا، وأحلى مخرجا وأجلى منهجا وأعلى مدرجا، وأعدل عدلا، وأوضح فضلا، وأصحّ وصلا إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة، ثم تنتهي إلى العربية، فإنّك تحكم بأن المبدأ الذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض، سرى قليلا قليلا حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض.

وهذا شيء يجده كلّ من كان صحيح البنية، بريئا من الآفة، متنزّها عن الهوى والعصبيّة، محبا للإنصاف في الخصومة، متحرّيا للحقّ في الحكومة، غير مسترقّ بالتقليد، ولا مخدوع بالإلف، ولا مسخّر بالعادة.

وإنّي لأعجب كثيرا ممّن يرجع إلى فضل واسع، وعلم جامع، وعقل سديد، وأدب كثير، إذا أبى هذا الذي وصفته، وأنكر ما ذكرته، وأعجب أيضا فضل عجب من الجيهانيّ في كتابه وهو يسبّ العرب، ويتناول أعراضها ويحطّ من أقدارها، ويقول: يأكلون اليرابيع والضّباب والجرذان والحيّات ويتغاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون، وكأنّهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير.

قال: ولهذا كان كسرى يسمّي ملك العرب: «سكان شاه» ، أي ملك الكلاب. قال:

وهذا لشدّة شبههم بالكلاب وجرائها، والذئاب وأطلائها «١» ، وكلاما كثيرا من هذا الصّوب أرفع قدره عن مثله، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله. أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي، كلّ كسرى كان في الفرس، وكلّ قيصر كان في الروم، وكلّ بلهور كان بالهند، وكلّ بغفور كان بخراسان، وكلّ خاقان كان بالتّرك وكلّ أخشاد كان بفرغانة وكلّ صبهبذ كان من أسكنان وأردوان، ما كانوا يعدون هذه الأحوال، لأنّ من جاع أكل ما وجد، وطعم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حبّا للحياة، وطلبا للبقاء، وجزعا من الموت، وهربا من الفناء. أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبرّ (وبار) وسفوح طيبة، ورمل يبرين وساحة هبير، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان، وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر، وما أسن في تلك الوهدات؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسّمل من الثياب وما هو دونه وأخشن؟ بلى والله، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال، وكلّ ما حمض ومرّ، وخبث وضرّ، هذا جهل من قائله، وحيف من منتحله، على أن العرب- رحمك الله- أحسن الناس حالا

<<  <   >  >>