للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى شيء معتاد في بيت بيت، إلى شيء خاصّ بشخص شخص وإنسان إنسان، وهذا التحوّل من أمّة إلى أمّة، يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريّته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الرّبوة بعين لا قذىّ بها، أبصر الحقّ عيانا بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية، ومتى صدق نظرك في مبادئ الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كلّه كالنهار إذا متع «١» ، واستنار كالقمر إذا طلع، ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحقّ وحصول الصواب، إلّا ما يلتاث بالهوى، ويسمج بالتعصّب، ويجلب اللّجاج، ويخرج إلى المحك «٢» ، فهناك يطيح المعنى ويضلّ المراد.

فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي، فاسمع ما أرويه، قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: انصرف العبّاس بن مرداس السّلميّ من مكّة فقال:

«يا بني سليم، إني رأيت أمرا، وسيكون خيرا، رأيت بني عبد المطلب كأنّ قدودهم الرّماح الرّدينيّة، وكأن وجوههم بدور الدّجنّة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأنّ منطقهم مطر الوبل على المحل، وإن الله إذا أراد ثمرا غرس له غرسا، وإنّ أولئك غرس الله، فترقّبوا ثمرته وتوكّفوا غيثه، وتفيّئوا ظلاله، واستبشروا بنعمة الله عليكم به» . ولقد قرع العبّاس بهذا الكلام باب الغيب، وشعر بالمستور، وأحسّ بالخافي، واطّلع عقله على المستتر، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع، والحادث المتوقّع، وهذا شيء فاش في العرب، لطول وحدتها، وصفاء فكرتها، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها، وصحّة فطرتها، وخلاء ذرعها، واتّقاد طبعها، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقاتها، ومآخذها البديعة في استعاراتها، وغرائب تصرّفها في اختصاراتها، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها، وفنون تبحبها في أكناف مقاصدها، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها، وهذا وأضعافه مسلّم لهم، وموفّر عليهم، ومعروف فيهم ومنسوب إليهم، مع الشجاعة والنّجدة والذّمام والضّيافة والفطنة والخطابة والحميّة والأنفة والحفاظ والوفاء، والبذل والسّخاء، والتّهالك في حبّ الثناء والنّكل الشديد عن الذم والهجاء، إلى غير ذلك ممّا خصّت به في جاهليّتها قبل الإسلام، ممّا لا سبيل إلى دفعه وجحوده، والبهت فيه، والمكابرة عليه، وقد سمعنا لغات كثيرة- وإن لم نستوعبها- من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزّنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربيّة، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة الّتي بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في

<<  <   >  >>