ولم يكن في الأرض أكثر طيبا، ولا أحذق صنّاعا للطّيب من عدن، ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء، فتقوم أسواقهم بها، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم بها، فيتناشدون ويتحاجّون ويتحادّون، ومن له أسير يسعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم، وكان آخرهم الأقرع بن حابس، ثم يقفون بعرفة، ويقضون ما عليهم من مناسكهم، ثم يتوجهون إلى أوطانهم.
وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد. هذا حديثهم، وهم همل لا عزّ لهم إلا بالسّؤدد، ولا معقل لهم إلّا السّيف، ولا حصون إلّا الخيل، ولا فخر إلّا بالبلاغة.
ثم لمّا ملكوا الدّور والقصور والجنان والأدوية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبرّ والبحر، لم يقعدوا عن شأو من تقدّم بآلاف سنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبرّوا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا، وهذا الحكم ظاهر معروف، وحاضر مكشوف، ليس إلى مردّه سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل.
فليستحي الجيهاني بعد هذا البيان والكشف والإيضاح، بالإنصاف من القذع والسّفه اللّذين حشا بهما كتابه، وليرفع نفسه عما يشين العقل، ولا تقبله حكّام العدل، وصاحب العلم الرصين، والأدب المكين، لا يسلّط خصمه على عرضه بلسانه، ولا يستدعي مرّ الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره، فإنّ العصبيّة في الحق ربّما خذلت صاحبها وأسلمته، وأبدت عورته، واجتلبت مساءته، فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمّة من الأمم جاحدين، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمّة من الأمم جاهلين. فإنّ جاحد الحقّ يدلّ من نفسه على مهانة، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور، فهذا هذا، وفي الجملة المسلّمة، والدعوة المرسلة، أنّ أهل البرّ وأصحاب الصّحارى الذين وطاؤهم الأرض، وغطاؤهم السماء، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول، ومن الترفّه والرفاهية أبعد، وبالحول والقوّة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع، وعلى المصالح والمنافع أوقع، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف، وهذا للدّواعي الظاهرة، والحاجات الضروريّة، والعلائق الحاضّة على الألفة والمودّة، والشدائد المؤدبة، والعوارض اللّازبة «١» ، ولهذا يقال: عيب الغنى أنّه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنّه يبعث الحيلة، وهذا معنىّ كريم، لا يقرّ به إلّا كلّ نقّاب عليم.