وقال الجيهانيّ أيضا: ممّا يدل على شرفنا وتقدّمنا وعزّنا وعلوّ مكاننا، أنّ الله أفاض علينا النّعم، ووسّع لدينا القسم وبوّأنا الجنان والأرياف، ونعّمنا وأترفنا. ولم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذّبهم، وضيّق عليهم وحرمهم، وجمعهم في جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاح، وبهذا يعلم أنّ المخصوص بالنعمة والمقصود بالكرامة فوق المقصود بالإهانة.
فأطال هذا الباب بما ظنّ أنّه قد ظفر بشيء لا جواب عنه، ولا مقابل له، ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلّى له، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها، وقد دلّ كلامه على أنّه جاهل بالنعمة، غافل عمّا هو سرّ الحكمة.
وعنده أنّ الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحوّارى وركب الجواد، وتقلّب على الحشيّة، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسّد الأرض، وقنع باليسير من رخى العيش، وسلا عن الفضول، هذا خطأ من الرأي، ومردود من الحكم، عند الله تعالى أوّلا، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا، وأصحاب التّقى والنّهى، وعلى طريقته أيضا أن البصير أشرف من الأعمى، والغنّي أفضل من الفقير.
ألا يعلم أنّ المدار على العقل الّذي من حرمه فهو أنقص من كلّ فقير، وعلى الدّين الذي من عري منه فهو أسوأ حالا من كلّ موسر، ونعمة الله على ضربين: أحد الضربين عمّ به عباده، وغمر بفضله خليقته، بدءا بلا استحقاق وذلك أنّه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ورهب وأجزل، وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان، والتسوية والمعمومة بالتفضّل والقدرة المشتملة على الحكمة، والضرب الثّاني هو الذي يستحقّ بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، والاختيار والاعتقاد، ليكون جزاء وثوابا، ولهذا حرم العاصي المخالف، وأنال الطائع الموافق، فقد بان الآن أنّ المدار ليس بالجنان والترفّه، ولا بالذهب والفضّة، ولا الوبر والمدر.
وقد مرّ هذا الكلام كلّه فليسكن من الجيهانيّ جأشه، وليفارقه طيشه، وليعلم أنّ من أنصف أعطى بيده، وسلّم الفضل لأهله، فإنّ التواضع للحقّ رفعة، والترفع بالباطل ضعة.
وههنا بقيّة ينبغي أن يتبصّر فيها، من عرف النقص البحت، والنقص المشوب بالزيادة، والفضل الصّرف، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد بالهوى المغوي فضلا، ولم يدّع للعصبيّة المردية شرفا، ولم ينكر بالحسد مزيّة، والخلق كلّهم في نعم الله تعالى مشتركون، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون، وعلى قدرته متصرّفون، وإلى مشيئته صائرون، وعن حكمته مخبرون، ولآلائه ذاكرون، ولنعمائه