للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهاهنا مسألة، تقول: إن الناس عقولهم مختلفة، وأنصباؤهم منها متفاوتة.

قال: نعم. قال: وهذا الاختلاف والتفاوت بالطبيعة أو بالاكتساب؟ قال: بالطبيعة.

قال: فكيف يجوز أن يكون هاهنا شيء يرتفع به هذا الاختلاف الطبيعيّ والتفاوت الأصليّ؟ قال متّى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفا. قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع؟ ودع هذا، أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميّزة عند أهل العقل، فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الّذي تدلّ به وتباهي بتفخيمه، وهو (الواو) ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟

وهل هو على وجه أو وجوه؟

فبهت متّى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقيّ إليه، وبالنحويّ حاجة شديدة إلى المنطق، لأنّ المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مر المنطقيّ باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحويّ بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.

فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن الكلام والنطق واللغة واللفظ والإفصاح والإعراب والإبانة والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتّمنّي والنهي والحضّ والدعاء والنداء والطلب كلّها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أنّ رجلا لو قال: «نطق زيد بالحقّ ولكن ما تكلّم بالحق، وتكلّم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح، أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ» ، لكان في جميع هذا محرّفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقّه، ومستعملا اللّفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره، والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعيّ والمعنى عقليّ، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان، لأن الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان، لأن مستملي المعنى عقل والعقل إلهي، ومادّة اللفظ طينيّة، وكلّ طينيّ متهافت، وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربيّة لها اسما فتعار، ويسلّم لك ذلك بمقدار، وإذا لم يكن لك بدّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلابدّ لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثّقة والتوقّي من الخلّة اللاحقة.

فقال متّى: يكفيني من لغتكم هذه الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلّغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذّبتها لي يونان.

قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد

<<  <   >  >>