في المتحرّكات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة، على أنّ هاهنا سرّا ما علق بك، ولا أسفر لعقلك، وهو أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها، في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها، واستعارتها وتحقيقها، وتشديدها وتخفيفها، وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها، ووزنها وميلها، وغير ذلك ممّا يطول ذكره، وما أظنّ أحدا يدفع هذا الحكم أو يشكّ في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى تعرّف اللغة العربيّة أحوج منك إلى تعرّف المعاني اليونانيّة، على أنّ المعاني لا تكون يونانيّة ولا هنديّة، كما أنّ اللغات تكون فارسيّة وعربيّة وتركيّة، ومع هذا فإنّك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، فلم يبق إلّا أحكام اللّغة، فلم تزري على العربيّة وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها؟
وحدّثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق، أنظر كما نظروا، وأتدبّر كما تدبّروا، لأنّ اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقّرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد. ما تقول له؟ أتقول: إنّه لا يصحّ له هذا الحكم ولا يستتبّ هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت؟ ولعلّك تفرح بتقليده لك- وإن كان على باطل- أكثر ممّا تفرح باستبداده وإن كان على حقّ، وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.
ومع هذا، فحدّثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبيّن أنّ تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا، وأنت تجهل حرفا واحدا في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفا أمكن أن يجهل حروفا، ومن جهل حروفا جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلّها ولكن يجهل بعضها، فلعلّه يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه. وهذه رتبة العامّة أو رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبّى على هذا ويتكبّر، ويتوهّم أنه من الخاصّة وخاصية الخاصّة، وأنه يعرف سرّ الكلام وغامض الحكمة وخفيّ القياس وصحيح البرهان؟
وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلّها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والّتي لها بالتجوّز، سمعتكم تقولون: إن «في» لا يعرف النحويّون مواقعها، وإنما يقولون: هي «للوعاء» كما يقولون: «إن الباء للإلصاق» ، وإن «في» تقال على وجوه: يقال: «الشيء في الإناء»«والإناء في المكان»«والسائس في السياسة»«والسياسة في السائس» .
أترى أن هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها؟ ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كلّ من يدّعيه، وخطل من القول الّذي أفاض