يبق بمكة صبي الا وصبحه واجتمعوا كلهم في قبة زمزم، وينادون بلسان واحد:
هللوا وكبروا يا عباد الله؛ فيهلل الناس ويكبرون. وربما دخل معهم من عرض العامة من ينادي معهم بندائهم. والناس والنساء يزدحمون على قبة البئر المباركة لأنهم يزعمون، بل يقطعون قطعا جهليا لا قطعا عقليا، أن ماء زمزم يفيض ليلة النصف من شعبان.
وكانوا على ظن من هلال الشهر، لأنه قيل: انه رؤي ليلة الجمعة في جهة اليمن. فبكر الناس الى القبة، وكان فيها من الازدحام ما لم يعهد مثله، ومقصد الناس في ذلك التبرك بذلك الماء المبارك الذي قد ظهر فيضه، والسقاة فوق التنور يستقون ويفيضون على رؤوس الناس الماء بالدلاء قذفا؛ فمنهم من يصيبه في وجهه ومنهم من يصيبه في رأسه الى غير ذلك. وربما تمادى لشدة نفوذه من أيديهم، والناس مع ذلك يستزيدون ويبكون، والنساء من جهة اخرى يساجلنهم بالبكاء ويطارحنهم بالدعاء، والصبيان يضجون بالتهليل والتكبير؛ فكان مرأى هائلا مسموعا رائعا، لم يتخلص للطائفين بسببه طواف ولا للمصلين صلاة لعلو تلك الأصوات واشتغال الأسماع والأذهان بها. ودخل الى القبة المذكورة أحدنا ذلك اليوم فكابد من لز الزحام عنتا ومشقة، فسمع الناس يقولون: زاد الماء سبع اذرع. فجعل يقصد الى من يتوسم فيه بعض عقل ونظر من ذوي السبال البيض فيسأله عن ذلك، فيقول وأدمعه تسيل: نعم زاد الماء سبع أذرع، لا شك في ذلك، فيقول: أعن خبرة وحقيقة؟ فيقول: نعم.
ومن العجيب أن كان منهم من قال: انه بكر سحر يوم الجمعة المذكور فألفى الماء قد قارب التنور بنحو القامة. فيا عجبا لهذا الاختراع الكاذب، نعوذ بالله من الفتنة! وكان من الاتفاق أن اعتنينا بهذا الأمر لغلبة الاستفاضة التي سمعناها في ذلك واستمرارها مع سوالف الأزمنة عند عوام أهل مكة فتوجه منا ليلة الجمعة من أدلى دلوه في البئر المباركة الى أن ضرب في صفح الماء وانتهى الحبل الى حافة