وهذا الشهر المبارك عند أهل مكة موسم من المواسيم المعظمة وهو اكبر أعيادهم، ولم يزالوا على ذلك قديما وحديثا يتوارثه خلف عن سلف متصلا ميراث ذلك الى الجاهلية لأنهم كانوا يسمونه منصل الاسنة. وهو أحد الاشهر الحرم، وكانوا يحرّمون القتال فيه، وهو شهر الله الأصم، كما جاء في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
[العمرة الرجبية]
والعمرة الرجبية عندهم أخت الوقفة العرفية، لأنهم يحتفلون لها الاحتفال الذي لم يسمع بمثله ويبادر اليها أهل الجهات المتصلة بها، فيجتمع لها خلق عظيم لا يحصيهم الا الله عزّ وجلّ. فمن لم يشاهدها بمكة لم يشاهد مرأى يستهدي ذكره غرابة وعجبا، شاهدنا من ذلك أمرا يعجز الوصف عنه، والمقصود منه الليلة التي يستهل فيها الهلال مع صبيحتها. ويقع الاستعداد لها من قبل ذلك بأيام، فأبصرنا من ذلك ما نصف بعضه على جهة الاختصار. وذلك لأنا عاينا شوارع مكة وأزقتها، من عصر يوم الأربعاء، وهي العشية التي ارتقب فيها الهلال، قد امتلأت هوادج مشدودة على الإبل مكسوة بأنواع كسا الحرير وغيرها من ثياب الكتان الرفيعة بحسب سعة احوال اربابها ووفرهم، كل يتأنق ويحتفل بقدر استطاعته، فأخذوا في الخروج الى التنعيم ميقات المعتمرين، فسالت تلك الهوادج في اباطح مكة وشعابها، والإبل قد زينت تحتها بأنواع التزيين، واشعرت بغير هدي بقلائد رائقة المنظر من الحرير وغيره، وربما فاضت الأستار التي على الهوادج حتى تسحب أذيالها على الأرض.
ومن أغرب ما شاهدناه من ذلك هودج الشريفة جمانة بنت فليتة عمة الأمير مكثر، فإن اذيال سترة كانت تنسحب على الارض انسحابا؛ وغيره من هوادج حرم الامير وحرم قواده، الى غير ذلك من هوادج لم نستطع تقييد عدتها عجزا عن الاحصاء. فكانت تلوح على ظهور الإبل كالقباب المضروبة، فيخيل للناظر