تبيين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان، وثوّب المؤذنون من كل ناحية بالأذان.
وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة،، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع.
[سيف الإسلام]
وفي ليلة الثلاثاء الثاني من الشهر مع العشيّ طاف الأمير مكثر بالبيت مودعا وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر إلى أن صحّ وصوله إلى الينبوع، وأنه عرج إلى المدينة لزيارة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتقدمت أثقاله إلى الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقيا ومسلما، وفي الحقيقة مستسلما، والله تعالى يعرّف المسلمين خيرا.
وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوسا بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفا من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفا بالبيت المكرم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه، والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر، وضرب أبنيته فيه، ومقدمته من العسكر قد وصلت الى الحرم، وزاحمت الأمير مكثرا في الطواف.
فبينا الناس ينظرون اليهم اذ سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلا من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغصّ بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان؛