عشر ليونيه، رحلنا منها رغبة في الإسآد وبرد الليل وتفاديا من حر هجيرة التأويب، لأن منها الى حرّان مسيرة يومين لا عمارة فيها. فتمادى سيرنا الى الصباح ثم نزلنا في الصحراء على ماء جب وأرحنا قليلا، ثم رفعنا ضحوة النهار من يوم الأحد وسرنا ونزلنا قريب العصر على ماء بئر بموضع فيه برج مشيد وآثار قديمة يعرف ببرج حواء، فبتنا به، ثم رفعنا منه بعد تهويم ساعة وأسرينا الى الصباح، فوصلنا مدينة حران مع طلوع الشمس من يوم الاثنين السابع لربيع المذكور، والثامن عشر ليونيه، والحمد لله على تيسيره.
[مدينة حران حفظها الله]
بلد لا حسن لديه، ولا ظل يتوسط برديه، قد اشتق من اسمه هواؤه، فلا يألف البرد ماؤه، ولا تزال تتقد بلفح الهجير ساحاته وأرجاؤه، ولا تجد فيه مقيلا، ولا تتنفس منه الا نفسا ثقيلا، قد نبذ بالعراء، ووضع في وسط الصحراء، فعدم رونق الحضارة، وتعرت أعطافه من ملابس النضارة.
أستغفر الله! كفى بهذا البلد شرفا وفضلا أنه البلدة العتيقة المنسوبة لأبينا إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، وله بقبليها بنحو ثلاثة فراسخ مشهد مبارك فيه عين جارية كان مأوى له ولسارة، صلوات الله عليهما، ومتعبدا لهما. ببركة هذه النسبة قد جعل الله هذه البلدة مقرا للصالحين المتزهدين، ومثابة للسائحين المتبتلين. لقينا من أفرادهم الشيخ أبا البركات حيان بن عبد العزيز حذاء مسجده المنسوب اليه. وهو يسكن منه في زاوية بناها في قبلته، وتتصل بها في آخر الجانب زاوية لابنه عمر قد التزمها وأشبه طريقة أبيه فما ظلم، وتعرفت منه شنشنة أعرفها من أخزم. فوصلنا الى الشيخ وهو قد نيف على الثمانين، فصافحنا ودعا لنا وأمرنا بلقاء ابنه عمر المذكور، فملنا اليه ولقيناه، ودعا لنا، ثم ودعناهما وانصرفنا مسرورين بلقاء رجلين من رجال الآخرة.