ولقينا أيضا بمسجد عتيق الشيخ الزاهد سلمة، فلقينا رجلا من الزهاد الأفراد فدعا لنا وسألنا، وودعناه وانصرفنا. وبالبلد سلمة آخر يعرف بالمكشوف الرأس، لا يغطي رأسه تواضعا لله عز وجل حتى عرف بذلك، وصلنا الى منزله فأعلمنا أنه خرج للبرية سائحا.
وبهذه البلدة كثير من أهل الخير، وأهلها هيّنون معتدلون، محبون للغرباء مؤثرون للفقراء. وأهل هذه البلاد من الموصل لديار بكر وديار ربيعة الى الشام على هذا السبيل من حب الغرباء واكرام الفقراء؛ وأهل قراها كذلك. فما يحتاج الفقراء الصعاليك معهم زادا، لهم في ذلك مقاصد في الكرم مأثورة.
وشأن أهل هذه الجهات في هذا السبيل، عجيب، والله ينفعهم بما هم عليه.
وأما عبّادهم وزهّادهم والسائحون في الجبال منهم فأكثر من أن يقيدهم الإحصاء، والله ينفع المسلمين ببركاتهم وصوالح دعواتهم، بمنه وكرمه.
ولهذه البلدة المذكورة أسواق حفيلة الانتظام، عجيبة الترتيب، مسقفة كلها بالخشب. فلا يزال أهلها في ظل ممدود، فتخترقها كأنك تخترق دارا كبيرة الشوارع، قد بني عند كل ملتقى أربع سكك أسواق منها قبة عظيمة مرفوعة مصنوعة من الجص هي كالمفرق لتلك السكك. ويتصل بهذه الأسواق جامعها فالكرم، وهو عتيق مجدد قد جاء على غاية الحسن، وله صحن كبير فيه ثلاث الباب مرتفعة على سوار رخام، وتحت كل قبة بئر عذبة، وفي الصحن أيضا قبة رابعة عظيمة قد قامت على سوار من الرخام دور كل سارية تسعة أشبار، وفي وسط القبة عمود من الرخام عظيم الجرم دوره خمسة عشر شبرا.
وهذه القبة من بنيان الروم، وأعلاها مجوف كأنه البرج المشيد، يقال:
انه كان مخزنا لعدتهم الحربية، والله أعلم. والجامع المكرم سقف بجوائز الخشب والحنايا، وخشبه عظام طوال لسعة البلاط، وسعته خمس عشرة خطوة، وهو خمسة أبلطة، وما رأينا جامعا أوسع حنايا منه. وجداره المتصل بالصحن، الذي عليه المدخل اليه، مفتح كله أبوابا، عددها تسعة عشر بابا: تسعة يمينا،