مدينة يضرب بها المثل في الحصانة، لا تلقى لطالبها بيد طاعة ولا استكانة، قد أعدّها الإفرنج مفزعا لحادثة زمانهم، وجعلوها مثابة لأمانهم، هي أنظف من عكة سككا وشوارع، وأهلها ألين في الكفر طبائع، واجرى الى برّ غرباء المسلمين شمائل ومنازع، فخلائقهم أسجح، ومنازلهم أوسع وافسح، وأحوال المسلمين بها أهون واسكن، وعكة أكبر وأطغى وأكفر.
وأما حصانتها ومناعتها فأعجب ما يحدث به، وذلك أنها راجعة الى بابين:
أحدهما في البر، والآخر في البحر، وهو يحيط بها الا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضى اليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، واما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين الى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص. فالسفن تدخل تحت السور وترسو فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب الا عند ازالتها. وعلى ذلك الباب حرّاس وأمناء، لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج الا على أعينهم، فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع، ولعكة مثلها في الوضع والصفة لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك وانما ترسو خارجها والمراكب الصغار تدخل اليها، فالصورية اكمل وأجمل وأحفل.
فكان مقامنا بها أحد عشر يوما، دخلناها يوم الخميس وخرجنا منها يوم الأحد الثاني والعشرين لجمادى المذكورة، وهو آخر يوم من شتنبر، وذلك أن المركب الذي كنا أملنا الركوب فيه استصغرناه فلم نر الركوب فيه.