ورحلنا إثر صلاة الجمعة فاجتزنا على قرية كبيرة لها حصن تعرف بتل العقاب، هي للنصارى المعاهدين الذميين، ذكرتنا هذه القرية بقرى الأندلس حسنا ونضارة، تحفها البساتين والكروم وأنواع الأشجار، وينسرب بإزائها نهر ترف الظلال عليه، وخطها متّسع، والبساتين قد انتظمته، وشاهدنا بها من الخنانيص أمثال الغنم كثرة وأنسا بأهلها. ثم وصلنا عشى النهار الى قرية أخرى تعرف بالجسر، هي الآن لناس من المعاهدين، وهم فرقة من فرق الروم، فكان مبيتنا بها ليلة السبت الخامس لربيع المذكور، ثم أسحرنا منها ووصلنا مدينة رأس العين قبيل الظهر من يوم السبت المذكور.
[مدينة رأس العين]
هذا الاسم لها من أصدق الصفات، وموضوعها به أشرف الموضوعات، وذلك أن الله تعالى فجر أرضها عيونا وأجراها ماء معينا، فتقسمت مذانب وانسابت جداول تنبسط في مروج خضر، فكأنها سبائك اللجين ممدودة في بساط الزبرجد، تحف بها أشجار وبساتين قد انتظمت حافتيها الى آخر انتهائها من عمارة بطحائها. وأعظم هذه العيون عينان: احداهما فوق الأخرى، فالعليا منهما نابعة فوق الارض في صم الحجارة كأنها في جوف غار كبير متسع يبسط الماء فيه حتى يصير كالصهريج العظيم ثم يخرج ويسيل نهرا كبيرا كأكبر ما يكون من الانهار وينتهي الى العين الأخرى ويلتقي بمائها. وهذه العين الثانية عجب من عجائب مخلوقات الله عز وجل، وذلك أنها نابعة تحت الارض من الحجر الصلد بنحو اربع قامات أو أزيد، ويتّسع منبعها حتى يصير صهريجا في ذلك العمق، ويعلو بقوة نبعه حتى يسيل على وجه الأرض. فربما يروم السابح القوي السباحة الشديدة الغوص في أعماق المياه أن يصل بغوصه الى قعره فيمجه الماء بقوة انبعاثا من منبعه، فلا يتناهى في غوصه الى مقدار نصف