المراكب. فاستمر مركبنا في سيره، والريح الجنوبية تسوقه سوقا عنيفا، وبر الأرض الكبيرة عن يميننا،، وبر صقلية عن يسارنا.
[الإشراف على الغرق]
فلما كان مع نصف ليلة الأحد الثالث للشهر المبارك، وقد شارفنا مدينة مسينة من الجزيرة المذكورة، دهمتنا زعقات البحريين بأن المركب قد أمالته الريح بقوتها الى أحد البرين وهو ضارب فيه، فأمر رئيسهم بحط الشرع للحين، فلم ينحط شراع الصاري المعروف بالأردمون، وعالجوه فلم يقدروا عليه لشدة ذهاب الريح به، فلما أعياهم مزقه الرائس بالسكين قطعا قطعا طمعا في توقيفه، وفي أثناء هذه المحاولة سنح المركب بكلكله على البر، والتقاه بسكانيه، وهما رجلاه اللتان يصرف بهما، وقامت الصيحة الهائلة في المركب، فجاءت الطامة الكبرى، والصدعة التي لم نطق لها جبرا، والقارعة الصماء التي لم تدع لنا صبرا، والتدم النصارى التداما، واستسلم المسلمون لقضاء ربهم استسلاما، ولم يجدوا سوى حبل الرجاء استمساكا واعتصاما.
وتعاورت الريح والامواج صفح المركب حتى تكسرت رجله الواحدة فألقى الرائس مرسى من مراسيه طمعا في تمسكه به، فلم يغن شيئا، فقطع حبله وتركه في البحر، فلما تحققنا أنها هي قمنا فشددنا للموت حيازيمنا، وأمضينا على الصبر الجميل عزائمنا، وأقمنا نرتقب الصباح أو الحين المتاح، وقد علا الصياح، وارتفع الصراخ من أطفال الروم ونسائهم، والقى الجميع عن يد الإذعان، وقد حيل بين العير والنزوان. ونحن قيام نبصر البر قريبا، ونتردد بين أن نلقي بأنفسنا اليه سبحا، أو ننتظر لعل الفرج من الله يطلع صبحا. فأحضرنا نية الثبات، والبحريون قد ضموا العشاري لإخراج المهم من رجالهم ونسائهم وأسبابهم، فساروا به الى البر دفعة واحدة، ثم لم يطيقوا رده، وقذفه الموج مكسرا على ظهر البر، فتكمن حينئذ اليأس من النفوس، وفي أثناء مكابدة هذه الأحوال أسر الصبح، فجاء نصر الله والفتح، وحققنا النظر فاذا بمدينة مسينة أمامنا على أقل من نصف الميل وقد حيل بيننا وبينها، فعجبنا من قدرة الله عز وجل في تصريف أقداره، وقلنا: رب مجلوب اليه حتفه في عتبة داره.