ثم تمكن الشروق فجاءتنا الزوارق مغيثة، ووقعت الصيحة في المدينة، فخرج ملك صقلية غليام بنفسه في جملة من رجاله متطلعا لتلك الحال: وبادرنا الى النزول في الزوارق والأمواج لشدتها لا تمكنها الوصول الى المركب. فكان نزولنا فيها خاتمة الهول العظيم، ونجونا الى البر منجى أبي نصر عن قدر. وتلف للناس بعض أسبابهم فتسلوا عن الغنيمة بإيابهم.
ومن العجب، على ما أخبرنا به، أن هذا الملك الرومي المذكور أبصر فقراء من المسلمين يتطلعون من المركب وليس لهم شيء يؤدونه نزولهم لأن أصحاب الزوارق أغلوا على الناس في تخليصهم، فسأل عنهم، فاعلم بقصتهم، فأمر لهم بمائة رباعي من سكته ينزلون بها، وخلص جميع المسلمين عن سلام، وقيل: الحمد لله رب العالمين.
وفرغ النصارى جميع ما كان لهم فيه، فأصبح في اليوم الثاني وقد جعلته الأمواج جذاذا، ورمت به الى البر أفلاذا، فعاد عبرة للناظرين، وآية للمتوسمين.
ووقع العجب من سلامتنا منه، وجددنا شكر الله عز وجل على ما من به من لطيف صنعه وجميل قضائه وتخليصه لنا من أن يكون هذا القدر ينفذ علينا في الأرض الكبيرة أو إحدى جزائر الروم المعمورة. فكنا، لو سلمنا، نستعبد للابد، والله عز وجل يعيننا على أداء شكر هذه المنة والنعمة، وما تداركنا به من لحظات الرأفة والرحمة، انه على ذلك قدير، وبعوائد الفضل والخير جدير، لا إله سواه.
ومن جملة صنع الله عز وجل لنا، ولطفه بنا، في هذه الحادثة، كون هذا الملك الرومي حاضرا فيها. ولولا ذلك لانتهب جميع ما في المركب انتهابا، وربما كان يستعبد جميع من فيه من المسلمين، لأن العادة جرت لهم بذلك. وكان وصول هذا الملك لهذه البلاد، بسبب اسطوله الذي ينشئه، رحمة لنا، والحمد لله على ما من به علينا من حسن نظره الكفيل بنا، لا إله سواه.
[مدينة مسينة من جزيرة صقيلة]
هذه المدينة موسم تجار الكفار، ومقصد جواري البحر من جميع الأقطار،