العشاء الآخرة، فجمعوا بها بين العشاءين، حسبما جرت به سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، واتقد المشعر الحرام تلك الليلة كلها مشاعيل من الشمع المسرج، واما مسجده المذكور فعاد كله نورا، فيخيل للناظر اليه أن كواكب السماء كلها نزلت به. وعلى هذه الصفة كان جبل الرحمة ومسجده ليلة الجمعة؛ لأن هؤلاء الأعاجم الخراسانيين وسواهم من العراقيين أعظم الناس همّة في استجلاب هذا الشمع والاستكثار منه إضاءة لهذه المشاهد الكريمة. وعلى هذه الصفة عاد الحرم بهم مدة مقامهم فيه، فيدخل منهم كل انسان بشمعة في يده، وأكثر ما يقصدون بذلك حطيم الإمام الحنفي لأنهم على مذهبه. وشاهدنا منه شمعا عظيما أحضر منه، تنوء الشمعة منه بالعصبة كأنه السّرو، ووضع أمام الحنفي.
فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة السبت، فلما صلوا الصبح غدوا منه الى منى بعد الوقوف والدعاء، لأن مزدلفة كلها موقف الى وادي محسّر، ففيه تقع الهرولة في التوجه الى منى حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، وكل ذلك واسع. فلما انتهى الناس الى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ثم نحروا أو ذبحوا وحلوا من كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة. ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. ثم توجه أكثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام الى اليوم الثاني، ومنهم من أقام الى اليوم الثالث، وهو يوم الانحدار الى مكة. فلمّا كان اليوم الثاني من يوم النحر، عند زوال الشمس، رمى الناس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالجمرة الوسطى كذلك، وبهاتين الجمرتين يقفون للدعاء، وبجمرة العقبة كذلك ولا يقفون بها، اقتداء في ذلك كله بفعل النبي، صلى الله عليه وسلم. فتعود جمرة العقبة في هذين اليومين أخيرة، وهي يوم النحر أولى منفردة لا يخلط معها سواها.
وفي اليوم الثاني من يوم النحر، بعد رمي الجمرات، خطب الخطيب بمسجد الخيف، ثم جمع بين الظهر والعصر، وهذا الخطيب وصل مع الأمير العراقي