ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه، الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بازاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصيلة آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدّرّ، فاما نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقسّ وسحبان.
ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فاذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات الى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عددا، أو يسميها نسقا. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في ايراد خطبته، عجلا مبتدرا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرا، وأتى بها على نسق القراءة لها، لا مقدما ولا مؤخرا. ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلا، ويورد الخطبة الغراء بها عجلا! «أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون» ، «ان هذا لهو الفضل المبين» فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر!