ففرغ من انشاده وقد هز المجلس طربا، ثم أخذ في شأنه وتمادى في ايراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلما في الدنيا يعطي من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده، لا اله غيره.
وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه، بالإضافة الى ما عهدناه من متكلمي الغرب. وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة، شرّفها الله، مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت، بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ، في نفوسنا قدرا، ولم نستطب لها ذكرا. وأين تقعان مما أريد وشتان بين اليزيدين، وهيهات! الفتيان كثير، والمثل بمالك يسير! ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه.
وحضرنا له مجلسا ثالثا، يوم السبت الثالث عشر لصفر، بالموضع المذكور بازاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبا، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبا، وأسال من أدمعهم وابلا سكبا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتا من النسيب شوقا زهديا وطربا، الى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والها مكتئبا، وغادر الكل متندما على نفسه منتحبا، لهفان ينادي: يا حسرتا واحربا، والمنادون يدورون بنحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ما صحا، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لا اله سواه.
ثم نرجع الى ذكر بغداد:
هي كما ذكرناه جانبان: شرقي وغربي، ودجلة بينهما فأما الجانب الغربي فقد عمه الخراب واستولى عليه، وكان المعمور أولا. وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يصلى فيها الجمعة، فأكبرها القرية، وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحملته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس يعبرون