وفي أثناء ذلك انبسطت الشمس، ولان البحر قليلا، وصممنا نروم أخذ مرسى في البر المذكور إلى أن يقضي الله قضاءه وينفذ حكمه، ولكل سفر أوان، وسفر البحر إنما هو في إبانه، والمعهود من زمانه، لا أن يعتسف في فصول أشهر الشتاء اعتسافنا له، والأمر لله من قبل ومن بعد فالحذر الحذر، من ركوب مثل هذا الخطر، وان كان المحذور لا يغني عن المقدور شيئا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم ان الريح ساعدت عند استقبالنا البر بعض مساعدة، فانصرفنا عنه وتركناه يمينا وعدنا الى قريب من المجرى المقصود، وجرينا بعض ليلة الثلاثاء الثالث عشر منه، وقد ثم لنا على ظهر المركب أربعة وثلاثون يوما، والشرع مصلبة، وهو عندهم أعدل جري لأنه لا يكون الا بالريح التي تتلقى مؤخر المركب في مجراه، فأصبحنا يوم الثلاثاء المذكور على مثل تلك الحال، وساعدت الريح، ففرحنا وسررنا، وطلعت علينا مراكب قاصدة مقصدنا فاستبشرنا بها وعلمنا أنا على مجرى مقصود، ولله الحمد والشكر على كل حال من الأحوال.
ثم انقلبت الريح غربية، وهبت عاصفا، فألجأتنا اضطرارا بعد أن جرت لنا بعض ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء الى مرسى من مراسي جزائر الرمانية، وهو رأس الجزيرة، ومنه الى الأرض الكبيرة مجاز فيه الاثنا عشر ميلا، فأصبحنا به يوم الخميس الخامس عشر لشعبان المكرم، والثاني والعشرين لنونبر، فحمدنا الله عز وجل على ما من به من السلامة، وتوافت بعدنا الى ذلك المرسى خمسة مراكب، منها اثنان كانا قد أقلعا من بر الاسكندرية عن عهد نحو خمسين يوما فأسقطتهما الريح، فأقمنا بذلك المرسى أربعة أيام، وجدد الناس به الماء والزاد لأن العمارة كانت منا قريبا، فنزل أهل الجزيرة وبايعوا أهل المركب في الخبز واللحم والزيت وما كان عندهم من الأدم. ولم يكن خبزهم برا خالصا انما كان خليطا بالشعير وكان يضرب للسود. فتهافت الناس عليه على غلائه، ولم يكن بالرخيص في سومه، وشكروا لله على ما من به عليهم.
وفي هذا المرسى كمل لنا على ظهر البحر أربعون يوما، والحمد لله على كل حال، ومدة مقامنا بالمرسى لم يفتر عصوف الريح الغربية، وعادت أشد ما