للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَمَ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَفِعْلُ الصَّغَائِرِ لَا يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ.

سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اجْتِنَابُهُمُ الصَّغَائِرَ وَالْكَبَائِرَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ "فيلزم"* فيجب وُجُوبُ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِمْ هُنَالِكَ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ، لَا حَالَ التَّحَمُّلِ.

سَلَّمْنَا وُجُوبَ كَوْنِهِمْ عُدُولًا فِي الدُّنْيَا، لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا الْخِطَابِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَقْتَضِي عَدَالَةَ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ.

وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ: بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إِلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ مُطَابِقٌ لِلْخَبَرِ، فَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ، وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ جَازَتْ عَلَيْهِمُ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْحَاكِمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْبَاطِنِ، فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.

وَقَوْلُهُ: الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْعَدَالَةِ أَدَاءُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ عَدَالَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا.

يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ صَيْرُورَتَهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ، لَقَالَ: سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِأَمَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بهذه الفضيلة وكونه الْخِطَابَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَزِمَ اخْتِصَاصُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ النُّزُولِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَلَا يَخْفَاكَ مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنَ الضَّعْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا فَإِنَّ ثُبُوتَ كَوْنِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِمَجْمُوعِهِمْ عُدُولًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً شَرْعِيَّةً تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ "مَتْرُوكٌ"** إِلَى الشَّارِعِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا إِذَا أَخْبَرُونَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَمَّا كَوْنُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ ديني يصيره دِينًا ثَابِتًا عَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَلَا هِيَ مَسُوقَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا تَقْتَضِيهِ بِمُطَابَقَةٍ وَلَا تَضَمُّنٍ وَلَا الْتِزَامٍ.

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} ١، "وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ المفسرة


* في "أ": فيجب.
** ما بين قوسين ساقط من "١".

<<  <  ج: ص:  >  >>