بِالْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ لِأَمَارَةٍ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَاتِ يَخْتَلِفُ حَالُ النَّاسِ فِيهَا، فَيَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُ الْخَلْقِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، وَلِأَنَّ فِي الْأُمَّةِ من لم يقل بقول الأمارة حجة، لا يُمْكِنُ اتِّفَاقُهُمْ لِأَجْلِ الْأَمَارَةِ عَلَى الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ لَا لِدِلَالَةٍ وَلَا لِأَمَارَةٍ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً بِالْإِجْمَاعِ فَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْمَحْصُولِ وَقَدْ أَسْقَطْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ ضَعْفٌ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى تَعَسُّفٍ وَفِي الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَشَةَ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ بِجَوَابَاتٍ مُتَعَسِّفَةٍ، يَسْتَدْعِي ذِكْرُهَا ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مِنَّا فَيَطُولُ الْبَحْثُ جِدًّا، وَلَكِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ مَا قَدَّمْنَاهُ١ كَمَا يَنْبَغِي، عَلِمْتَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ على مطلوب المستدلين منها.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ٢.
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَسَطًا، وَالْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خِيَارُهُ فَيَكُونُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَلَوْ أَقْدَمُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لم يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً.
لَا يُقَالُ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ يَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَا، وَخِلَافُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّا نَقُولُ يَتَعَيَّنُ تَعْدِيلُهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ تَجِبُ عِصْمَتُهُمْ عَنِ الْخَطَأِ قَوْلًا وفعلا، هذا تَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَالَةَ الرَّجُلِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيَامِهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ وَهَذَا مِنْ فِعْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ وَسَطًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَهُمْ وَسَطًا مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَدَالَتِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ.
وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْوَسَطَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَجَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْعَدْلِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْوَسَطَ مِنْ كُلِّ شَيْءِ خِيَارُهُ فلمَ قُلْتُمْ: بِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ "خَيْرِيَّةِ قَوْمٍ"* يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُمْ لِكُلِّ الْمَحْظُورَاتِ، ولِمَ لَا يُقَالُ: إِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ اجْتِنَابُهُمْ لِلْكَبَائِرِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً لَكِنَّهُ مِنَ الصَّغَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي خَيْرِيَّتِهِمْ
* في "أ": عن خيرتهم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute