للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ أَعَظْمَ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: الْحَدِيثِ، وَاللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ:

أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُكْمِ بِالْمَنْسُوخِ١.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَشَرَطَهُ جماعة منهم الغزالي، والفخر الرازي، ولم يشترطه الْآخَرُونَ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَدُورُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، لَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حَاكِمًا فَهُوَ لَا يَجْعَلُ مَا حَكَمَ بِهِ دَاخِلًا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ، فمنهم من "اشتراط"* ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، فَقَالَ: يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ، كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَالتَّصْدِيقِ "بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ"**.

وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِدَقَائِقِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْآمِدِيُّ.

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْفُرُوعِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ إِلَى اشْتِرَاطِهِ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ الِاجْتِهَادُ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهِ فَهُوَ طَرِيقٌ لِتَحْصِيلِ الدُّرْبَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.

وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، قَالُوا: وإلا لزم الدور، وكيف يحتاج إليه، وَهُوَ الَّذِي يُوَلِّدُهَا، بَعْدَ حِيَازَتِهِ لِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ.

وَقَدْ جَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ عِلْمَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْعِلْمُ بِهَا بِدُونِهِ كَمَا قَدَّمْنَا٢.

وَجَعَلَ قَوْمٌ مِنْ جُمْلَةِ عُلُومِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةَ الْقِيَاسِ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ وَأَصْلُ الرَّأْيِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الْفِقْهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِهِ، وشعبة من شعبه.


* في "أ": يشترط.
** في "أ": بالرسل وما جاءوا به.

<<  <  ج: ص:  >  >>