دليل آخر أن اللغة فائدتها إفهام المراد بالخطاب لأن المتكلم يعلم ما فى نفسه وأن لم ينطق لسانه وإنما يريد بكلامه إفهام غيره والإبانة له عن المراد الذى فى نفسه فما كان كذلك وجدنا أهل اللغة وأرباب اللسان استعملوا فى أبياتهم ألفاظا تعارفونها ووضعوا لكل شىء أرادوا الإبانة عنه سمة ورسموا لكل معنى منه رسما يعلم به المراد ويقع به التمييز بين الشىء وضده فلا يجوز إبطال ما أصلوه منها وإزالته عما وضعوه عليه وحمل ألفاظهم على ما يؤدى إلى التعرى عن الفائدة كما لم يجز ذلك فيما وجد فى أوائل كلامهم من مفرد إلى الأسماء والحروف التى هى أدوات الكلام فهذه الأسماء المفردة والحروف التى هى أدوات كلها مقيدة والأسماء المركبة وكذلك الأفعال مبنية من الأسماء المفردة ومردودة إليها وخالفوا بين السمات وزادوا ونقصوا من الحروف وفاوتوا بين جهات الإعراب لاختلاف ما يوجد تحتها من المراد وقد قالوا: فى باب الأسماء رجل وفى التثنية رجلان وفى الجمع رجال وقالوا: فى المشتق مشرك ومشركان وقالوا: فى أبنية الأفعال للواحد فى باب الأمر افعل وللاثنين افعلا وللجمع افعلوا وكما قيل فى الإخبار عن الفعل الماضى فعل وفى المستقبل يفعل وفيما يدخله التراخى سيفعل وقالوا: فيما يستدعيه من فعل غيره استفعل وقالوا: فيما تكلفه من الفعل من غير مطاوعة تفعل فلكما خالفوا بين الشىء والشىء فى القصد خالفوا بين المصارف فى الشكل والهيئة لنعلم أنهم لم يضعوا قسمة الألفاظ إلا على قسمة المعانى ولم يرتبوا هذه الأسماء إلا على مراتب المسميات وإذا تقرر ما ذكرناه فكان الأمر فى هذا مشهورا عند أهل المعرفة باللغة وبأن من قال للفظ الجمع الذى ذكروه فى الأسامى والأفعال معنى.
وقالوا: تناوله للعدد الشامل للجنس وللبعض من ذلك أو للواحد والاثنين على وجه واحدا فقد رام الجمع بين ما فرقوا والتفريق بين ما جمعوا وحمل بعضها على البعض مع التفريق من أهل اللسان ومن رام هذا فقد رام قلب اللغة وإبطال البيان وإيقاع العلم فى اللبس والتشكيك وهذا فاسد قطعا بلا إشكال ولا مرية.
قالوا: إذا لم يدع قلب اللغة ولا زعمنا أنه لا بيان فى حملها لكن قلنا أن هذه الألفاظ التى ادعيتم لها العموم محتملة فى وضعها معرضة أن يكون المراد بها الشىء وغيره فإنها توجد والمراد بها العموم والاستغراق وتوجد أخرى والمراد بها الخصوص والإفراد فإذا كان كذلك لم يجر القضاء عليها بأحد وجهى الاحتمال إلى أن يقوم عليها.