الباشا: نعمت المنزلة عند الله الشهادة، وللشهيد في الجنة أعلى الدرجات، ولكن كيف نتصور عقولكم -وأظنكم فقدتموها- أن تجتمع الشهادة في سبيل الله والحياة فيا لدنيا لأحد الناس؟ والذي يفوق ذلك عجبًا، ويزيد العقل خيالًا أن يحكم الناس فلاح وينوب عن الأمة حراث.
فبين له عيسى بن هشام أن الشهادة ليست بشهادة الجهاد، بل هي ورقة يأخذها التلميذ في نهاية دروسه، ليثبت بها أنه تلقى العلوم وترع فيها، وقيمتها لمن يريد الحصول عليها ألف وخمسمائة فرنك في بعض الأحيان -وهذه غمزة اجتماعية تبين ما كان يحدث من شراء الشهادات.
ويدخل اثنان على النائب وهما من لداته يصفهما عيسى بن هشام وصفًا ساخرًا، فيقول: "وبينا نحن في هذا الحديث إذا بشابين رشيقين قد أقبلا يخطران في مشيتهما، والطيب ينتشر في الجو من أردانهما، وهما يصعران خديهما كبرًا
واختيالًا، ولا يلتفتان من حولهما تيهًا وإعجابًا، أحدهما يشق الهواء بعصاه،
والثاني تلعب بالنظارة يداه: فشخصت إليهما الأنظار، وتحولت الأبصار، والحاجب أمامهما يدفع الناس من طريقهما، حتى وصلا إلى باب النائب، فقام لهما عن مجلسه وأمر بأرباب القضايا أن ينصرفوا من حضرته، واشتغل الحاجب بسحبهم وجرهم وطردهم ونهرهم، واشتغل النائب بطي المحاضر، ورفع المحابر حتى خلا لصاحبيه من كل شغل وعمل.
ثم تبين أن الحديث الذي من أجله صرف المتقاضين وأهانهم، وانصرف عن واجبه بسببه حديثتافه يدور حول السهرات، ولعب القمار وصحبة النساء والسؤال عن فلان وفلان ماذا عملًا وماذا جرى لهما؟، فإذا سأل أحدهم أتعرفون لم انتحر فلان؟ كل بيدي رأيه في الأمر، وأخيرًا تبين أنه انتحر تقليدًا لأبيناء العلية من شبان باريس.
وهكذا يمضي المويلحي يغوص إلى أعماق المجتمع، يلحظ وينتقد ويلذع بكلماته هؤلاء الذين لا يراعون حقوق الوطن والمواطنين، وينحرفون عن جادة
الصواب، ويصور الشواذ من الناس تصويرًا بارعًا، ويقف أمام الأشياء العظيمة فيجيد نعتها، كل هذا مع روح مصرية خالصة في وطنيتها وصدقها ومرحها ودعابتها.