للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن يقرأ نظرات المنفلوطي يخيل إليه أنه في هم مقيم يلازمه في غدوه ورواحه، وليله ونهاره من هذه الآفة المستحكمة، آفة البؤس التي يعاني منها سواد الشعب، فتأكل قوته، وتذيب حيويته، وتصم أثرياءه وأرباب الحكم فيه بوصمة العار.

وإذا كان المنفلوطي فيها سلف من حديث عن الفاقة والثراء قد عبر عما في ذات نفسه مباشرة، فإنه في حديث "أبي الشمقمق" يبين وجهة نظر الفقراء فيما يدور حولهم في دنيا أهملهم فيها أثرياؤها وأولو الأمر فيها، إن في هذا الحديث قد تقمص شخصية بائس فقير يفصح عن إحساسه مدى آلامه.

ففي مجلس جمع بعض ذوي المال "ما بين تاجر يعجب بصفقته الرابحة وزارع يفخر بقلة ما أعطي وكثرة ما أخذِ، وآخر يعلل نفسه بكثرة الغلات وارتفاع الأسعار ... "، وكلهم يشيد بهذا العهد الأخير عهد العدل والإنصاف، عهد الحرية والمساواة، عهد الرقي والعمران.

كل هذا وأبو الشمقمق جالس ناحية يجتر طرفه، ويهز رأسه، ويصعد أنفاسه، ويمضغ أضراسه، ويئن من أعماق قلبه أنينا خفيفًا يكاد يسمع فيه السامع فيقول الشاعر:

فيالك بحرًا لم أجد فيه مشربًا ... على أن غيري واجد فيه مسبحًا

فلما انفض المجلس انتحى المنفلوطي بصاحبه أبي الشمقمق ناحية، وجرى بينهما هذا الحديث.

- ألا يعجبك يا أبا الشمقمق حديث النهضة الحديثة التي نهضتها الأمة المصرية في عهدها الأخير، وأنت فرد من أفرادها، وجزء من جسمها، فنهوضها نهوضك، وسقوطها سقوطك- فأنت الأمة والأمة أنت.

- إن كنت تريد أنني فرد متكرر كثير الأشباه والأمثال في العوز والفاقة، وواحد لا سند لي ولا عضد، ودائر في مدارج الطرق، ومعابد السبل، فقد أصبت وأحسنت، وإن كنت تريد مني غير ذلك فأنا لا أفهم إلا كذلك.

<<  <   >  >>